Q شاع في عرف بعض الناس أن الدية مال لا بركة فيه، وأن أخذه ينافي المروءة وكذلك أخذ الأرش، مما يدفع بعض أهل المجني عليه إلى التنازل عن حقهم مع عدم رضاهم بذلك وعدم قناعتهم، فما توجيهكم أثابكم الله؟
صلى الله عليه وسلم باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: الدية شرع الله عز وجل، ومن قال: إن الدية لا بركة فيها بل بعضهم يقول: من أخذها أضره الله في ماله، فهذا قول باطل ومصادمٌ لشرع الله عز وجل، وهناك قاعدة تقول: كل حكمٍ يحلل حراماً أو يحرم حلالاً فإنه خلاف شرع الله عز وجل، وهو ردٌ على من قاله.
قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله أحل أشياء فلا تحرموها) فهؤلاء كأنهم يريدون أن يحرموا على الناس ما أحل الله لهم، والدية حقك؛ إن شئت أخذتها، وهذا حسن؛ لأنك لم تظلم أحداً وأخذت حقك؛ كما لو جاء شخص -مثلاً- واعتدى على سيارتك فكسرها وجئت وأخذت قدر جنايته وقدر خطئه، ما ظلمته، كأن تكون سيارتك واقفة فجاء وصدمها، فقال أهل الخبرة: أنه هو المخطئ ولزمه أن يصلح هذا الخطأ، فلو كانت كلفة إصلاح السيارة ثلاثة آلاف ريال، فأي ظلمٍ في هذا؟!! وأي جناية في هذا؟ وأي اعتداء؟ فلماذا يُحرم ما أحل الله؟ وهل كل الناس يستطيع كلما جنيت عليه جناية أن يصفح؟ دعوا الأنفس والأرواح؟ لكن نقول: إذا كان هذا في الأموال العادية فكيف بالأنفس؟ السبب في هذه الديات في الأنفس: أن الإنسان إذا اُعتدي على قريبه وأعطي الدية وأخذها سكنت النفس واطمأنت وحصل أنه عوض عن حقه، وحينئذ لا توغر صدور المؤمنين بعضهم على بعض، فإذا قطعت يده بالخطأ وأعطي نصف الدية جبر خاطره وجبرت نفسه، فإذا نظر إلى يده المقطوعة وتذكر ثوابه عند الله عز وجل واطمأنت نفسه للآخرة، فإذا جاءت النفس تتحدث عن الدنيا وجد شيئاً من الدنيا يسليه ويجبر خاطره، وهذا تشريع الحكيم الحميد سبحانه وتعالى، وحكم الله الذي لا يعقب في حكمه سبحانه وتعالى.
ولو علم الله أن فيها شراً ما سكت عن ذلك، ولا يشرع سبحانه لعباده إلا ما فيه الخير لهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، ولقد جاءت رسل ربنا بالحق، فهذا من كلام الجاهلية ودعوى أهل الجاهلية، لكن إن تنازلت عن هذه الدية فهذا أحسن، وأعظم لأجرك وأثقل لميزانك.
فإذا تركتها محبة لأخيك في الله ورحمة به، وشفقة عليه آجرك الله، وأحسن لك الخلف، ولكن من تركها خوفاً من أن تأتيه المصيبة، فهذا لم يتركها لله، وإنما تركها خوفاً من الضرر الأعظم، وحينئذ لا ينال الدنيا ولا ينال الآخرة؛ لأنه لم يتركها لله عز وجل، فهذا من تلبيس الشيطان نسأل الله السلامة والعافية، انظروا كيف يصرف الناس وتجتالهم شياطين الإنس والجن بالأهواء والآراء التي ما أنزل الله بها من سلطان، {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم:23].
فهذا أمر الله الذي لا يعقب، فهو سبحانه الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين، وليس لأحد أن يستدرك على الله في شرعه، ولو علم الله أن في هذه الضمانات والديات ضرراً لما شرعها؛ لأنه قال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
فكل تشريع أوحي إليه في كتاب الله وسنته عليه الصلاة والسلام فهو الرحمة والخير والبركة، وعلى كل حال: ينبغي أن يعلم الناس ذلك، وأن يقال لهم: إن هذا حقهم، فالحسن أن يأخذوه والأحسن أن يتنازلوا عنه، {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96]، فمن صبر ظفر وأحسن الله له العاقبة، ولا شك أن الخلف مضمونٌ من الله عز وجل لمن ترك شيئاً لله.
(فمن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه) والله تعالى أعلم.