بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس].
ترجم الإمام المصنف رحمه الله بهذه الترجمة، والتي قصد بها أن يبين أن هذا الموضع مختص بالقصاص فيما دون النفس، وقد تقدم معنا أن القصاص ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: يتعلق بالقصاص في الأنفس، وذلك بالاعتداء على الأرواح بإزهاقها.
القسم الثاني: يتعلق بالقصاص فيما دون النفس.
والذي دون النفس ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن تكون الجناية على الأطراف، ويكون القصاص في الأطراف.
القسم الثاني: أن تكون الجناية في غير الأطراف من الجروح والكسور ونحو ذلك.
فإن كانت الجناية في الأطراف فتنقسم إلى قسمين أيضاً: الأول: أن تكون الجناية على الأطراف بقطعها وبترها، مثل أن يقطع يده، أو يقطع رجله، أو يقطع أذنه، أو يفقأ عينه، ونحو ذلك.
الثاني: أن تكون الجناية على الطرف بإتلاف منفعته، مثل أن يجني عليه فيضربه ويلطمه لطمة تذهب نور بصره، فلا يبصر ويصبح كفيف البصر، أو يزول الإبصار من إحدى عينيه دون الأخرى، فهنا العين موجودة، ولكن الجناية أثرت في منفعة العين وهي الرؤية، أو يضربه على أذنه فيذهب السمع والأذن موجودة، فالطرف لم يتضرر ولم يذهب بل هو موجود، ولكن الجناية أثرت في منفعة هذا الطرف، فهذا مجمل الجنايات.
فالمصنف رحمه الله بعد أن فرغ من بيان القصاص في النفس أراد أن يبيّن القصاص فيما دون النفس، وهذا ترتيب منطقي عند العلماء، وهو التدرج من الأعلى إلى الأدنى، وهذا له دليل من الكتاب، فإن الله تعالى يقول: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة:45]، فابتدأ الله بالأنفس، ثم بعد ذلك بالأطراف، فابتدأ بما هو أعظم.
ومن هنا سلك الفقهاء رحمهم الله هذا المسلك، فابتدءوا بالقصاص في النفوس، وبيان متى يجب القتل قصاصاً ويثبت القود لمستحقه، ثم بعد ذلك شرعوا فيما يتعلق بالأطراف والجنايات بالجروح، والله عز وجل جاء بالثلاثة الأنواع فقال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45]، فجعل القصاص في هذه الأمور إما في النفس، وإما في الأطراف، وإما في الجروح، وهذا من بديع القرآن، وهو تدرج من الأعلى إلى ما هو أدنى منه.
فالمصنف رحمه الله يريد أن يبين لنا في هذا الموضع القصاص في الأطراف وفي الجروح، فقال رحمه الله: (باب القصاص فيما دون النفس)، أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بثبوت القصاص في الجناية إذا كانت لا تصل إلى حد إزهاق النفس، ويستوي في ذلك أن تكون جناية بإتلاف الأطراف أو منافعها، أو جناية بالكسر، أو جناية بالجروح.