Q كنت مريضاً ونذرت إن شفاني الله تعالى أن أعبده سبحانه وتعالى، وقلت مرة: أعبده حق عبادته، فشفاني الله عز وجل، ولكنني قلق جداً؛ لأنني نذرت بما لا أستطيع؟
صلى الله عليه وسلم تعبده حق عبادته بما تستطيع، فتكون عابداً لله عز وجل، وهذا يستلزم ثلاثة أمور: الأول: أن تكون في عقيدتك أخلص الناس قلباً لله عز وجل، وأصدقهم حباً لله سبحانه وتعالى، وأخوفهم لله تعالى، وأشدهم خشية من الله تعالى، وأكملهم رضاً عن الله عز وجل، وتستجمع معاني العقيدة في الله عز وجل في قلبك، فتوحده في ألوهيته، وتوحده في ربوبيته، وتوحده في أسمائه وصفاته على أكمل وأتم ما يكون التوحيد.
الثاني: أن تعبد الله تعالى بقولك حق عبادته، باستدامه قراءة القرآن، والذكر لله عز وجل.
الثالث: أن تعبده سبحانه حق عبادته في جوارحك وأركانك، وتسخرها في طاعة الله تعالى ومرضاته، وما الذي يمنعك من هذا؟ ما الذي يمنعك أن تعبد ربك حق عبادته؟ إذ الأصل أن المسلم يعبد الله تعالى حق العبادة، وما خلق إلا من أجل هذا، فهذا خير عظيم فتح الله تعالى عليك بابه، فإن استغللت وجوب النذر والإلزام عليك، وصدقت مع الله تعالى صدق الله تعالى معك.
فإذا كان الإنسان في بعده عن الله عز وجل يجد من التيسير، ويجد من الأمور ما لم يخطر له على بال، فكيف بمن أحب الله تعالى وتقرب إلى الله عز وجل؟! وما الذي يحول بينك وبين عبادة الله تعالى حق عبادته؟ ولا شك أنه لا يستطيع أحد أن يبلغ المقام الكامل في العبادة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أما إني أرجو أن أكون أخشاكم لله وأتقاكم له)، ولم يقل: إني خشيت الله تعالى كمال الخشية، ولم يقل: عبدته كمال العبادة، وإنما هذا أمر نسبي؛ لأنك تعبده حق العبادة بالنسبة لما تستطيع، وأنت مكلف بما تستطيع لا بما لا تستطيع، ولو قلت: أعبده عبادة الأنبياء، أو أعبده عبادة الملائكة، فهذا أمر ليس بيدك، ونذر فيما لا تملك، ولا نذر على الإنسان فيما لا يملك، ولا طلاق فيما لا يملك، كما في السنن.
فقولك: أعبده حق عبادته، أمر نسبي معروف بالنسبة لك، والنذور تدخلها الحقيقة الشرعية، وتدخلها الحقيقة العرفية، وتدخلها الحقيقة اللغوية، والأصل أن المكلف إذا تلفظ بهذا اللفظ فإنما يقصد الأمر النسبي، أي: إذا نذر أن يكون ملتزماً بالإسلام حقاً، وأن يكون مؤمناً صدقاً، وأن يكون موحداً كما يحب الله تعالى ويرضى، فاستعن بالله عز وجل ولا تعجزن، (ومن تقرب إلى الله شبراً تقرب الله منه ذراعاً، ومن تقرب إلى الله ذراعاً تقرب الله منه باعاً، ومن أتى يمشي أتاه الله هرولة)، ففي أي مقام حين تفكر أن تقبل على الله تعالى، وحين تفكر أن تكون مع الله عز وجل، تجد من نفحاته ورحماته وبركاته ما لم يخطر لك على بال! فالله أكرم من أن تسيء الظن به أن يجعلك من العاجزين، فاستعن بالله تعالى ولا تعجز.
ومما أوصى به العلماء والأئمة: أن تكون في هذه الحياة مستشعراً أن الله تعالى خلقك لعبادته، وأن الله تعالى أوجدك لطاعته، وهو أغنى ما يكون عنك، وأنت أفقر ما تكون إليه، وأنك لو بلغت مقام العابدين في غاية المقامات فلن تنفع الله تعالى شيئاً، والله عز وجل يقول في الحديث القدسي: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً)، ولا تحسب أن الله بحاجة لهذا، وإنما هي أعمال منفعتها للعبد، فالمسلم إذا أراد الله تعالى به الخير، وأراد أن يجعله من الصالحين، وأن يهيأه لمراتب المفلحين، جعل في قرارة قلبه أنه لا يرضى لنفسه إلا بالمقام الأعلى في طاعة الله تعالى ومرضاته، فإذا دخل المسجد تمنى من الله تعالى وسأل الله تعالى أن يكون أحب العباد إليه، وإذا جلس في مجلس الذكر تمنى ورجا من الله عز وجل أن يكون أكثر الناس فوزاً برحمة الله عز وجل، وإذا قال أو عمل أو سلك أي طريق من الخير دخله وفي قلبه من حسن الظن بالله تعالى وحسن الرجاء في الله تعالى ما يبلغ به مقامات الخير، فإذا لم يكن بعمله فبنيته.
والشخص قد يدخل في حلقة، أو يفعل طاعة، أو يأتي في أمر من أمور الخير والطاعة والبر ويشترك مع الأمة، فيدخل المسجد ويصلي مع الجماعة، ويخرج من المسجد حينما يدخل وهو يرجو أن يكون أفلح الناس، وكأنه حينما يدخل المسجد منكسر القلب يقول: يا رب! لا تجعلني أشقى القوم، اللهم لا تحل بيني وبين رحمتك بسبب ما كان من ذنبي وتقصيري، فيدخل منكسر القلب، فيرفعه الله تعالى بهذا الانكسار، ويفتح عليه من الخشوع والقرب والدنو والإنابة إلى الله عز وجل الخير الكثير، فإذا أراد أن يخرج خرج بالانكسار أيضاً، وخرج وهو يظن أنه أحقر الناس، وأنه أقل الناس، فلا يزال بهذا الاحتقار يرفع إلى درجات.
والعكس، فربما دخل -والعياذ بالله تعالى- وهو لا يفكر في شيء إلا أن يؤدي الصلاة، فيدخل وقلبه خاو -والعياذ بالله تعالى-، ثم إذا خرج ظن أنه كطالب علم، أو كأنه بلغ منزلةً من منازل العبادة، وأنه ليس بالحال التي يعتقد فيها البعد عن الله تعالى، فلا يزال في سفال من الله عز وجل.
فإذا جئت للعبادة قائلاً: يا رب! لا تجعلني أشقى القوم، فمعناه: أنك تستشعر أن لله تعالى عليك حقاً، أن تقف بين يديه أكمل الوقوف، وأن تخشع بين يديه كمال الخشوع، فلما استشعرت أن لله تعالى عليك هذا الحق جاهدت نفسك قبل العبادة، ثم احتقرت نفسك وانتقصتها بعد العبادة، فبلغك الله تعالى بهذا مقام العابدين.
وإذا لم يكن عندك هذا الشعور كإنسان صالح تقي، فقد جاءك بالنذر، فأنت حينما تحس أنه نذرٌ عليك، وبينك وبين الله عز وجل أن تكون في هذا المقام الصالح على أكمل ما يكون عليه أهلُ العبادة قولاً وعملاً واعتقاداً، فكلما قصرت احتقرت نفسك، فنحن نريد هذا الشعور أن يبقى معك، ونريد أن هذا الأمر يبقى ملزماً لك لتكون في أعلى المقامات، واستعن بالله تعالى ولا تعجز، فإنه ليس بينك وبين الجنة شيء، فإنها أقرب إليك من شراك نعلك، وليس بينك وبين النار شيء، فإنها أقرب إليك من شراك نعلك، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما هي إلا الأعمال والأقوال تدني إلى ذي العزة والجلال، أو تنتهي إلى خسارة ووبال، والمعصوم من عصمه ذو العزة والجلال.
فعلى العبد أن يتقي الله عز وجل، وأن يحرص دائماً -سواءٌ نذر أم لم ينذر- على أن يكون في أكمل المقامات، فإذا دخل بيته رجا من الله تعالى أن يكون أبر الناس بوالديه، وأكمل والد لولد، وأعطفهم وأرحمهم على ذريته ومن ولاه الله تعالى عليه من رعيته، ثم إذا جاء إلى عمله طمع من ربه أن يجعله في وظيفته وعمله ومكتبه على أحسن ما يكون من تحمل الأمانة والقيام بها، فيرعاها حق رعايتها، ويسأل الله تعالى أن يجعله موفقاً مسدداً، وهكذا ينتقل من بر إلى بر، ومن خير إلى خير، فيخوض في الرحمات، ويفوز بأعالي الدرجات، حتى ينتهي به الحال والأمر إلى الجنات.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل إنه ولي ذلك والقادر عليه.