فإذا وكل شخص شخصاً من أجل أن يقتل قاتل وليه، فلهذه الوكالة صور: الصورة الأولى: أن يوكله ولا يرجع عن الوكالة، ويذهب الوكيل ويقتص، فهذه الصورة لا إشكال فيها، فالوكالة صحيحة والتنفيذ صحيح، ولم يرجع الموكل عن وكالته حتى حصل التنفيذ، وكما أن الأصيل له حق الاستيفاء فقد قام الوكيل مقامه، والقاعدة: أن الوكيل ينزل منزلة الأصيل أو من وكله.
الصورة الثانية: أن يرجع الموكل عن وكالته، وهذه هي التي أشار إليها المصنف رحمه الله تعالى، فيقول الموكل لوكيله: اقتل من قتل أبي، أو وكلتك في قتل من قتل أبي، أو وكلتك في استيفاء حقي في القصاص من فلان، فخرج هذا الوكيل من أجل أن ينفذ الوكالة، فلما خرج رجع الموكل عن وكالته، رجوعاً بالعفو لا رجوعاً مطلقاً؛ لأن الرجوع المطلق الأمر فيه أخف، لكنه رجع بالعفو بقوله: قد عفوت عمن قتل أبي، فالوكيل ذهب، والعفو وقع من صاحب الحق، وحنيئذٍ فلذلك حالتان: الحالة الأولى: أن يقع العفو بعد التنفيذ، كما لو خرج الوكيل وطالب بالدم وقتل القاتل الساعة الواحدة ظهراً، والموكل عفا عن الدم الساعة الثانية ظهراً، أو الواحدة والنصف، فمعنى ذلك أن العفو وقع بعد استيفاء الحق، فلا شيء على الوكيل ولا على الموكل؛ لأن العفو لم يصادف محلاً، فإن الوكيل حينما قتل القاتل قتله وعنده مستند شرعي؛ لأن الوكالة شرعية، وصاحب الحق لا زال على حقه، فقتله بدون أي شبهة، ولا غبار على قتلهِ، لأن عفو ولي الدم بعد القتل، وإذا قتل القاتل سقط حق الموكل؛ لأنه لم يعد للموكل حق، فقوله: (عفوت) عفوٌ عن شيء غير موجود أصلاً؛ لأن حقه قد انتهى بتنفيذ القصاص.
ففي هذه الحالة إذا حصل العفو بعد التنفيذ فإنه لا شيء على الوكيل ولا شيء على الموكل الذي عفا، أما الوكيل فقد نفذ الوكالة، وقتله لمن قتل وقع في محله، وإذن صاحب الحق مستصحب، وأما عفو من عفا -وهو صاحب الدم- فقد وقع في غير موقعه؛ لأنه وقع بعد الاستيفاء، ولما وقع بعد الاستيفاء فقد سقط الحق لولي المقتول بالكلية، وحينئذٍ فقد عفا عن شيء غير موجود أصلاً؛ لأنه قد انتهى حقه.
الحالة الثانية: أن يقع العفو قبل التنفيذ، فيقول ولي القتيل: اشهدوا أني قد عفوت عن القاتل، سواءٌ قال: أريد الدية، أم قال: عفوت مطلقاً، فلهذه الحالة صورتان: الصورة الأولى: أن يبلغ الوكيل رجوع من وكله، فحينئذٍ لا يجوز له شرعاً أن يقتل القاتل بإجماع العلماء، إذا بلغه أناس عدول رجوع موكله، وقالوا له: إن فلاناً رجع عن وكالته لك، وقد عفا عن الدم، فإن ماطل وكابر وقتل القاتل، وهو عالم أن الوكيل قد رجع؛ فحينئذٍ يكون قاتلاً عمداً عدواناً فيقتص منه.
هذا إذا علم وثبت عنده الرجوع.
الصورة الثانية: إذا لم يعلم، كأن يكون بين الوكيل والموكل مسافة أيام، وبلوغ الوكيل لمكان القصاص لم يبق عليه سوى يومين، فالمسافة ما بين الموكل والوكيل لا يمكن أن يتوصل بها إلى إبلاغ الوكيل رجوع موكله، فقتل، ثم علم أن موكله رجع قبل تنفيذ القتل، فهل يتحمل المسئولية الوكيل بناءً على أنه بعفو الموكل سقط حق القصاص، والذي نفذ القصاص هو الوكيل؟ أم أنه يكون الاستحقاق على الموكل؛ لأنه هو الذي عفا وغرر بالوكيل، وكان المفروض أن يتعاطى الأسباب لإعلام الوكيل؟ هذه المسألة اختلف فيها العلماء رحمهم الله تعالى، وبعض أهل العلم رحمهم الله تعالى يقول: لا شيء على الوكيل ولا شيء على الموكل، أما الوكيل فلأنه يستند إلى أصل شرعي، والأصل مستصحب وهو الإذن، فلما كان العفو على وجه لا يمكن فيه البلوغ كان ضرباً من العبث، فوجود هذا العفو وعدمه على حد سواء؛ لأنه لم يبلغ الوكيل، فصار عفو الموكل في هذه الحالة واقعاً في غير موقعه؛ لأنه قد انتهى الأمر، وإنما يكون مؤثراً لو كان هناك مجال لإعلام الوكيل وتنبيهه وتلافي القتل، فلما أصبح الأمر على هذا الوجه الذي لا يمكن فيه التدارك سقط، وأما بالنسبة للموكل فلا شيء عليه؛ لأنه حينما وكل كان معذوراً شرعاً، وحينما عفا عفا على وجه لا يؤثر؛ لأنه لا يمكن تدارك الوكيل وإعطاؤه الخبر بالرجوع، وهو معذورٌ؛ لأنه يتعذر عليه إعلام الوكيل.
وهناك وجه ثانٍ للعلماء رحمهم الله تعالى: أنه يضمن الموكل؛ لأنه يعلم أنه لا يبلغ عفوه الوكيل لو عفا، فخاطر بالوكيل، والوكيل معذور في تنفيذ ما أمر به، ولما عفا تحمل عاقبة عفوه؛ لأن كلا الأمرين وقع بسببه، فالوكالة بسببه والعفو جاء بسببه، ففي هذه الحالة إذا رجع تحمل مسئولية الرجوع؛ لأن الرجوع منه، فهو متحمل لتبعة ما نجم عن عفوه، وهذا القول الثاني في الحقيقة من القوة بمكان، فيتحمل الموكل عن الوكيل في الضمان.