لكن هنا مسألة وهي: إذا كان القاتل الذي قتل المظلوم معروفاً بالشر والأذية والبغي والإضرار، فهل يشرع العفو عنه؟ وهل تشرع الشفاعة من أجل العفو؟ لأنه إذا كان العفو محموداً شرعاً فإن الشفاعة من أجله شأنها كذلك، فلو أن إنساناً شفع ودخل بين قوم بينهم دم وأصلح ودعاهم إلى العفو، فإنه يكون له مثل أجر من عفا، فمن دعا إلى خير وهدى كان له أجره وأجر من عمل به، فإذا رغبهم في ذلك، وأسكن النفوس، وأطفأ ثائرات النفوس، وحاول أن يدعوهم إلى العفو وإلى المجاوزة والصفح فعفو، فله مثل أجرهم، وله أجر الشفاعة وما يتحمل فيها من المشاق والمتاعب، فالله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً، قال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114]، و (عظيماً) من الله تعالى ليست بالهينة، ولذلك قال: {أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114].
فإن أعظم شيء يفسد الناس هو الدماء، فإذا وقعت بينهم الدماء ووقعت بينهم الخصومات والنزاعات، فخرج الشخص للصلح بينهم، بشرط أن لا يخرج إلا لوجه الله تعالى، لا حمية ولا عصبية ولا رياءً ولا سمعة، وإنما يخرج لله تعالى وفي الله تعالى، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114]، و (ابتغاء) أي: طلباً، أي: أنه يخرج وهو يريد أن يرضى الله تعالى عنه بذلك الذي يفعله، وهو يعلم أن الله تعالى يرضى عنه حين يصلح بين هذين المتخاصمين، أو يطفئ ثارات النفوس بالعفو عن القصاص والمسامحة والمجاوزة عن الجاني؛ فإن الله تبارك وتعالى يأجره على عمله وسعيه.
فالشفاعة في العفو عن القصاص مشروعة، والنبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه تأخر عن الصلاة مع الجماعة من أجل أن يصلح بين حيين من بني عوف، والحديث في الصحيحين، وهذا يدل على فضل الشفاعة، وأنها سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولكن إذا كان القاتل معروفاً بالشر والفساد والبغي ففيه تفصيل: إذ يقول بعض العلماء: إذا شفع أحد في إسقاط القصاص عنه وهو يرجو صلاحه، ويغلب على ظنه أن هذا يتسبب في إصلاحه وحسن حاله، فإنه يدخل في فضل الشفاعة، ولا يمنع من ذلك بل يندب إليه ويرغب فيه، ولا يعاتب بل إنه مثاب على هذا العمل.
أما إذا كان رجلاً شريراً لا يزداد بالعفو إلا شراً، ولا يزداد إلا تسلطاً على دماء المسلمين وأذيتهم، كأن قتل فعفي عنه، ثم قتل مرة ثانية، وعرف منه بعد القتلة الثانية أنه على حاله، وأنه مصر على بغيه، ومصر على كبره، ومصر على أذيته للناس، فهذا لا يجوز أن يسلط على دماء المسلمين، فالعفو عنه إبقاء لشره، ومن هنا نص جماعة من أهل العلم على أنه لا تشرع الشفاعة في مثل هذا.
وقد وقع ذلك لبعض مشايخنا رحمة الله عليهم، وأذكر أن رجلاً كان معروفاً بذلك وطلب من الوالد أن يشفع، فامتنع الوالد رحمه الله تعالى؛ لأنه سأل عنه وتبين من حاله أنه لا يزيده العفو إلا بغياً وفساداً، فمثل هؤلاء لا يعانون على الإضرار بالناس والإضرار بمجتمعاتهم والإضرار بالأبرياء، فهؤلاء إذا عفي عنهم تسلطوا على دماء المسلمين، وتسلطوا على الناس بأذيتهم والإضرار بهم، وليس الأمر خاصاً بالقتل بل إنه شامل لكل عقوبة، بحيث إذا كان الجاني يتسلط ويزداد أذية وبغياً وفساداً فمثله لا يعان على بغيه وفساده.