Q إذا دخلت المسجد ووجدت الإمام قد سلم من الصلاة، فهل أعود إلى المنزل؟ أم أصلي وحدي؟ أم أنتظر أحداً وأصلي معه؟
صلى الله عليه وسلم باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد: فهذه المسألة تعرف بالجماعة الثانية، وقد اختلف العلماء فيها، والجمهور على جواز إحداث الجماعة الثانية بعد الجماعة الأولى في المسجد، وذلك لما ورد في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي وحده، فقال عليه الصلاة والسلام: من يتصدق على هذا؟ فقام أبو بكر فتصدق عليه فصلى معه)، وهذا الحديث فيه مسائل: المسألة الأولى: بطلان مذهب من يقول: إنه يذهب إلى بيته؛ لأن الرجل صلى في المسجد فأقره النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينكر عليه.
وأما الاستدلال بحديث قباء حينما تأخر عليه الصلاة والسلام ودخل المسجد ووجدهم قد صلوا فرجع إلى بيته، فالجواب عنه: بأن النبي صلى الله عليه وسلم لو صلى جماعة ثانية لوقع الحرج للصحابة، ولكان فيه مما لا يخفى بالنسبة للصحابة حينما يرون أنهم سبقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان عليه الصلاة والسلام يطيب خواطر أصحابه، وكان نعم الصاحب لصحبه صلوات ربي وسلامه عليه، وهل كان ذهابه ليجدد وضوءه؟ أم هل ذهب عليه الصلاة والسلام لأجل أن لا يكسر خواطر الصحابة؟ فليس هناك دليل صريح يبين علة تركه للجماعة، ثم إن حديث أبي بكر قوي الدلالة من وجوه: أولاً: أنه قال: (من يتصدق على هذا)، فجعل سر المسألة أن يحصل الفرد على الجماعة، ولا يختلف اثنان أن مقصود النبي صلى الله عليه وسلم حصول جماعة ثانية، وإلا فلماذا يقول: (من يتصدق على هذا) بأسلوب الترغيب والتحديد؟ فهذا واضح الدلالة على مشروعية طلب الجماعة الثانية، وتحصيل الجماعة الثانية.
ثانياً: أن هذا الدليل دليل قول، وفعله عليه الصلاة والسلام دليل فعل، والأصل أن أدلة الأقوال أقوى؛ لأنها تشريع للأمة، ومخاطبة للأمة، ودليل الأفعال تدخلها الخصوصية، وإلا فكله من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا مسلك أصولي، فيقولون: إنه إذا جاءنا دليل يحتمل مع دليل لا يحتمل؛ قُدّم غير المحتمل على المحتمل، فدلالة الفعل تحتمل خصوصيته، وتحتمل العارض، أي: أنه عرض له عليه الصلاة والسلام عارض، مع أنه ليس عندنا جزم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلّ بعد، وإن كان هذا يسمونه: دلالة ظاهر.
فالشاهد: أن حديث ابن مسعود رضي الله عنه في كونه يذهب إلى بيته ولم يعرج، تدخله كثير من الاعتراضات، بخلاف حديث: (من يتصدق على هذا).
هذا جانب.
والجانب الثاني في القضية: أن القاعدة عند العلماء: أنه إذا تعارض نصان -وهب هنا أن النصين بمرتبة واحدة- فإنه إذا تعارض النصان رُجِع إلى الأصل، فهل الأصل أن يصلى في المسجد أو لا؟ والجواب: أن الأصل أن تصلي في المسجد، وأن تكسب أجر الصلاة في المسجد بالجماعة.
وعلى كل حال: فالقول بأنه يصلي الجماعة الثانية هو الصحيح، وهو الأولى بالأصول الدالة على مشروعية الصلاة في المسجد، وأما تحريم أن يصلي في المسجد ومنعه من ذلك فبعيد.
ثم العجيب أنهم قالوا: لا يصلي جماعة ثانية، أي: نهوا وحرموا، ودلالة الفعل ليس فيها نهي، فنفس الدليل الذي استدلوا به أن النبي صلى الله عليه وسلم مضى إلى حجرته، ليس فيه دليل نهي، وهذا مسلك ننبه عليه طلاب العلم، وهو أنه إذا استدل أحد بدليل طبق وجه الدلالة على الحديث، فالحديث الذي استدلوا به أن النبي صلى الله عليه وسلم مضى إلى بيته ولم يعرج على المسجد، هل فيه: (لا تصلوا)؟ وهل فيه نهي ينقل عن الأصل الذي جُعلت المساجد من أجله وهي الصلاة؟ فالواضح من هذا أن مذهب المالكية ومن وافقهم بأنه لا تعاد الجماعة الثانية ولا تكرر مذهب ضعيف مرجوح أمام ما هو أرجح منه قوةً ودلالة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخيراً: فعند العلماء أصل في النصوص، وهو أنه ربما نُبه بالأدنى على ما هو أعلى منه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الرجل يصلي وحده قال: (من يتصدق على هذا)؟ فندب من صلى أن يصلي مرة ثانية، وهذا يدل على أنه إذا وجد من لم يصل أصلاً فمن بابٍ أولى وأحرى، وهذا ما يسميه العلماء: الدلالة بالأدنى على ما هو أعلى منه، والله تعالى أعلم.