قال رحمه الله تعالى: [الثاني: اتفاق الأولياء المشتركين فيه على استيفائه].
قوله: (اتفاق الأولياء المشتركين فيه) أي: في حق القصاص والقود، (على استيفائه): أي على طلب القتل، فلو أن المقتول له عشرة من الأولياء، وهم قرابته الذين لهم حق القصاص، فسامح واحد منهم، أو عفا واحد منهم، سواءٌ عفا إلى دية أم عفا بدون دية، فإنه يسقط القصاص ويُعدل إلى الدية، فإذا عُدِل إلى الدية وقال: أنا سامحت عن كل شيء، ولا أريد دية ولا أريد شيئاً، فقد سقط عشر الدية، وتبقى التسعة الأعشار للباقين، فإن أرادوا أن يعفوا أيضاً سقطت الدية كلها وسقط القصاص، وإن قالوا: نريد حقنا من الدية، أخذ كل واحد حقه ونصيبه، وعلى كل حال هناك تفصيل في هذه المسألة، لكن الأصل أن عفو بعض الأولياء يسقط القصاص، والسبب في هذا: أن له حقاً، والقصاص لا يتبعض؛ لأن الآخر يريد الدية، فإذا أراد الدية وقُتِل القاتل لم نستطع دفع الدية إليه.
ومن هنا فلا قصاص مع عفو بعض الأولياء، وليعدل إلى الدية ولا بد بناءً على هذا، وهذا الأمر بإجماع عند العلماء أنه لا بد من اتفاق الأولياء على طلب القصاص، وهو القتل.
قال رحمه الله تعالى: [وليس لبعضهم أن ينفرد به].
قوله: (وليس لبعضهم) أي: بعض المستحقين للقصاص إذا طالب بالقتل فليس له ذلك، فلو أنه قتل رجل آخر وكان له ثلاثة أولياء مستحقون للقود والقصاص، فقام أحدهم وقتله قبل أن يحكم بقضيته، وقبل أن يحكم القاضي بالاستيفاء، فإذا قتله فإما أن يقتله قبل عفو الباقين، وإما أن يقتله على اتفاق الباقين على القتل، أو يقتله وقد عفا بعضهم وطالب الآخرون، فهذه ثلاث حالات: أما الحالة الأولى: فإذا قتله وقد اتفق الجميع على قتله فلا إشكال أنه لا قصاص؛ لأنه سيقتل أصلاً، لكن يؤدب ويعزر؛ لأنه كان ينبغي أن يناط الأمر بولي الأمر حتى يمكنه من حقه، فلما استعجل وقتل كان هذا منه افتياتاً على الحاكم والقاضي كما يسمونه، فحينئذٍ يُعزر بما يناسبه.
وأما الحالة الثانية والثالثة: فهي أن يعفو الجميع، أو يعفو بعض الأولياء، كاثنين شريكين في القصاص، فقام أحدهما وقال: عفوت، فغضب الآخر وأخذ سلاحه وقتله، فإذا ثبت العفو عند القاضي، فإنه حينئذٍ يقتص من هذا الثاني؛ لأنه إذا ثبت العفو حُقِن دم المقتول الذي هو القاتل في الأصل، فإذا جاءه وقتله فقد قتله بدون وجه حق؛ لأنه ليس له حق في القتل، وحينئذٍ يقتص منه في قول جمهور العلماء رحمهم الله تعالى؛ لأنه في هذه الحالة لا حق له في القصاص؛ لكن إذا لم يعلم بعفوه وجاء وقتله، وهو لا يعلم أن شريكه قد عفا، فحينئذ تكون شبهة، ويدرأ عنه الحد ولا يقتص منه.
إذاً: إذا اتفقوا على طلب القصاص، ولم يحكم القاضي بالاستيفاء، وقتل بعضهم، فإنه لا قود ولا قصاص على هذا القاتل؛ لأنه طلب حقه، وهو مقتول لا محالة، وحينئذٍ لم يتعد، وإن عفا بعضهم وثبت عفوه عند القاضي وعلم شريكه، فأخذه الحنق وقتل، فقد قتل معصوماً، وحينئذٍ ليس له حق في هذا القصاص؛ لأنه بعفو شريكه سقط القصاص، وحينئذٍ يكون كأنه قتل معصوماً، فإذا استوفيت الشروط يقتل به ويقتص منه، وأما إذا لم يعلم بعفوه وقتله، أو قتله قبل أن يسأل هل عفا أم لم يعف؟ فإنه لا يقتص منه لوجود الشبهة.
قال رحمه الله تعالى: [وإن كان من بقي غائباً أو صغيراً أو مجنوناً انتظر القدوم والبلوغ والعقل].
أي: إذا قال بعض الورثة: نريد القصاص، ولهم شركاء فيه كصبي أو مجنون أو غائب؛ فإننا ننتظر الغائب حتى يأتي، وننتظر المجنون حتى يفيق، والصبي حتى يبلغ، كما قدمنا في مسألة المستحق، ففي هذه الحالة لا يقتص بقول بعضهم.
فلو كانوا عشرة، وطالب الأكثرون كتسعة مثلاً، وبقي يتيم قاصر دون البلوغ، فإننا نقول: لا حق لكم حتى يبلغ هذا اليتيم، فإن طلب القصاص اقتص، وإن لم يطلب القصاص فلا إشكال أنه يعدل إلى الدية أو العفو المطلق على حسب الحال.
وبناءً على ذلك: لا ننظر إلى الأكثرية، ولا ننظر إلى نوعية الذين عفوا والذين هم غائبون، إنما ينظر إلى إجماعهم واتفاقهم، وهذا الذي عبر به المصنف باتفاق أوليائه، فلابد أن يتفق المطالبون بالقصاص على طلب القصاص.