قال رحمه الله تعالى: [ويكون المؤذن صيتا أمينا].
بعد أن فرغ رحمه الله من حكم الأذان، والذي يؤذن وهو المحتسب، وأن لا يكون صاحب أجرة شرع رحمه الله في الأوصاف التي ينبغي توفرها في المؤذن.
فقال رحمه الله: (ويكون المؤذن صيتاً أميناً).
قوله: (صيتاً) أي: قوي الصوت؛ لأن المقصود من الأذان الإعلام، والقاعدة في الشريعة: (الولايات العامة والخاصة يرشح لها المكلفون بحسب وجود مصالح الولاية).
فإذا كانت الولاية تعليم الناس فإنه يرشح لها العالِم الفطن، وإذا كانت قضاءً يُرشح لها العالم -لأن القضاء يحتاج إلى علم- الحازم الذكي الذي يعرف ملابسات القضايا وكذب الخصوم وغشهم وتدليسهم، الداهية الذي يعرف الأمور بدلائلها، أو يتفرس في الخصمين بأقوالهما.
فقد قرر العلماء رحمة الله عليهم، ومنهم الإمام الماوردي في الأحكام السلطانية، وكذا شيخ الإسلام في غير ما موضع من المجموع أن كل ولاية شرعية يُنظر فيها إلى الصفات التي يتحقق بها مقصود الشرع، فلما كان المقصود من الأذان شرعاً إعلام الناس وحصول الإعلام قال المصنف: (ويكون المؤذن صيتاً)، فابتدأ بالصوت؛ لأنه هو المعول في إعلام الناس، فلم يقل: ذا صوت وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، أي أنه أرفع صوتاً من غيره، والشخص يكون ذا صوت على أحوال، فأعلاها وأسماها وأسناها رفعة الصوت مع النداوة والطراوة، وهو الذي يسمونه ندي الصوت؛ فإنه قد يكون صوته عالياً لكنه مؤذٍ، وهذا يختلف باختلاف الأشخاص، فإن كان صيتاً، مؤذياً بصوته فيُعدل عنه إلى من هو أندى صوتاً ولو كان أضعف صوتاً منه.
والسبب في هذا أن المؤذن يؤذِّن والناس في ضجعتهم وفي نومهم وفي راحتهم، فإن كان مزعج الصوت آذاهم بهذا الأذان، وربما أزعج الضعفاء من الأطفال والصبية، فحينما يكون ندي الصوت يكون ذلك أدعى لذهاب هذه المفسدة، ويدل على هذا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن عمر لما أُرِي الأذان قال له عليه الصلاة والسلام: (فألق على بلال ما رأيت فليؤذن فإنه أندى صوتاً)، أي: ألق ألفاظ الأذان على بلال، (فإنه أندى صوتاً)، والجملة تعليلية، أي: أمرتك بهذا لعلةٍ وهي كونه أندى صوتاً.
فطراوة الصوت ونداوته مطلوبةٌ في الأذان؛ لأنه أرفق بالناس، خاصةً في أذان الفجر والعصر، فلذلك قالوا: يُشرع أن يكون صيتاً وفي صوته نداوة.
وننبه على أمور: فلو كان المؤذن صوته ضعيفاً فوَّت مقصود الشرع؛ لأنه بضعف صوته لا يبلغ أذانه المبلغ، ولذلك ينبغي أن يعدل إلى من هو أقوى منه صوتاً، وقد يكون صوته رقيقاً مبالغاً في النداوة حتى يصل إلى رقة النساء، فيصرف عنه الأذان إلى غيره إجلالاً لهذا المنصب ورعايةً له؛ لأن الناس تجل هذه المناصب الشرعية بحسب أشخاصها، فإذا وضع في الأذان من هو أهل عظم الناس الأذان، والعكس بالعكس، ولذلك ينبغي أن يكون صوته بعيداً عن طراوة النساء ونداوتهن، وكذا بعيداً عن الخشونة المؤذية.