قال رحمه الله: [وشبه عمد].
شبه الشيء مثيله ونظيره، والمشابهة: المشاكلة والمقاربة في الأوصاف والصفات، وشبه العمد: هو النوع الثاني من القتل، وله ثلاثة أسماء: شبه العمد، وعمد الخطأ، وخطأ العمد.
فهذه كلها من أسماء شبه العمد.
وهذا النوع الثاني قد أثبته جمهور العلماء كما سنبينه إن شاء الله، وهو قضاء عمر وعثمان وعلي وجمهور الصحابة رضي الله عنهم، وهذا النوع بين الخطأ وبين العمد، فإن فيه مشابهة للخطأ من وجه، وفيه مشابهة للعمد من وجه، ولذلك يقال له: عمد الخطأ، ويقال له: خطأ العمد.
ودليله: ما رواه النسائي وابن ماجة وغيرهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إن في قتيل شبه العمد -قتيل السوط والعصا والحجر- مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها)، وهذا الحديث فيه فوائد: أولاً: ثبوت القسم الثالث من أقسام القتل، والتي هي: العمد والخطأ وشبه العمد، الذي هو الوسيط بين العمد والخطأ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إن في قتيل شبه العمد)، فأثبت قسماً ثالثاً وسيطاً بين العمد والخطأ، وهذا محل الشاهد.
ثانياً: أنه يوجب الدية ولا يوجب القصاص؛ لأنه قال: (ألا إن في قتيل شبه العمد)، وفي بعض الروايات: (قتيل خطأ العمد -قتيل السوط والعصا- مائة من الإبل)، فبين أن فيه الدية وليس فيه قصاص، وهذا يدل على أنه لا يقتص ممن قتل بهذا النوع.
وستأتينا ضوابط شبه العمد.
ثالثاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب مثالاً لقتيل شبه العمد، فقال: (قتيل السوط والعصا والحجر)، فكل آلة في الغالب غير قاتلة إذا كانت مستخدمة في القتل فهو من شبه العمد، أما إذا كانت الآلة في الغالب قاتلة فهذا عمد وله ضوابطه التي سنذكرها.
إذاً: بين النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا محل الشاهد- أن هناك قسماً ثالثاً، وهو شبه العمد.
ويكون في حال الشجار والخصومة مثل النزاع في حال اللجج والخصومة، فيأخذ العصا ويضربه فيكون فيها حتفه، وتكون العصا التي ضرب بها غير كبيرة، أما لو كانت كبيرة الحجم جداً بحيث أنها تقتل غالباً فلا إشكال.
وكذلك أيضاً أن يكون الضرب في غير مقتل، فلو أخذ عصا صغيرة ولكنه ضرب في مقتل فهو عمد.
فيشترط أن تكون الآلة لا تقتل غالباً، وأن يكون الضرب في غير مقتل، وأن يكون المضروب مثله يتحمل مثل هذا الضرب.
فلو كانت العصا لا تقتل، ولكنه كرر الضرب على وجه يقتل غالباً، فهذا قتل عمد، ولو أنه ضرب بها في مقتل، والغالب أن الضرب في هذا المكان يقتل، فهو عمد، مثل جهة الخصية والأنف، وكالضرب على جهة القلب، والضرب على المقاتل المعروفة، فهذه إذا حصل الضرب لها، ولو كانت الآلة لا تقتل غالباً، لكن الموضع يقتل غالباً، فهو من العمد.
وكذلك أيضاً كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: قتيل الحجر، كأن يرميه بحجر والحجر لا يقتل غالباً، بحيث لا يكون كبير الحجم، فهذا من شبه العمد أيضاً.
فإذا كان الحجر يقتل غالباً، فإنه حينئذ قتل عمد.
لكنه إذا كان حجراً لا يقتل مثله غالباً والموضع الذي ضربه فيه لا يقتل، فإننا نغلب القدر وأنه ليس بالآلة ولا بالقصد، فالقصد أنه لا يريد القتل؛ لأن الذي قتل لا يريد القتل، فحينئذ يقال: هذا شبه عمد، فيرتفع عن الخطأ وينزل عن العمد يرتفع عن الخطأ فديته مغلظة يشدد فيها؛ لأنه يوجب الدية، وحينئذ يقال: تغلظ الدية، كما سيأتينا إن شاء الله، وينزل عن العمد فلا يوجب قصاصاً، وسيأتي إن شاء الله بيان ضابطه.