القصاص في الجناية على البدن

ويبقى عندنا الجناية على الأطراف، وهي الجناية التي تكون فيما دون النفس، وذلك كما ذكرنا مثل: فقأ العين، وكسر السن، وبتر الساق، وكسر الساق، ونحو ذلك.

فهذه الجنايات التي دون النفس أيضاً منها ما يوجب القصاص، فمثلاً: لو قطع يداً تقطع يده، ولو قطع رجلاً تقطع رجله، فيمكننا إذاً أن نستوفي، ويمكننا أن نحكم بالقصاص، وليس هناك ظلم إذا ثبت ما يوجب القصاص على الجاني، وتوفرت الشروط المعتبرة للحكم بالقصاص منه، فيقطع منه مثل ما قطع، لكن في بعض الأحيان لا يمكن تحقق العدل في الجناية، مثل الكسر الذي يهشم العظام، فلا يؤمن فيه الحيف، بحيث لو أن شخصاً اعتدى على شخص، فهشم له عظماً على وجه لا نستطيع أن نفعل به مثل ما فعل، فإننا لا نأمن الحيف، فربما نأتي نقتص من الجاني فنزيد ونحيف، فإذا لم يؤمن الحيف فإنه حينئذ يمنع من القصاص.

ومثل ذلك: أن يكون الجاني شيخاً كبيراً حُطمة، أو كان فيه مرض أو عاهة؛ بحيث لو أننا أجرينا هذا القصاص لأزهقت نفسه، فإنه حينئذ لو أردنا أن نقتص منه فإن معنى ذلك: أننا نعاقبه بأضعاف عقوبته.

فكما أن الجناية على النفس لا بد من توفر الشروط المعتبرة للقصاص فيها، فكذلك أيضاً الجناية على الأعضاء والبدن لا بد من تحقق الشروط المعتبرة للحكم باستيفائه.

وبناءً على ذلك قسم المصنف رحمه الله هذا الباب إلى هذه الأقسام، وقد بحث المصنف في الجنايات أن الأصل أنها تحتاج إلى إثبات، ولا تقبل دعوى كل إنسان بجناية إلا بإثبات، فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى أناس أموال أناس ودماءهم -كما قال صلى الله عليه وسلم- فهذا يحتاج منا أن نعرف: متى؟ وكيف؟ وما هي الوسائل المعتبرة لإثبات الجناية والجريمة؟ فالتسلسل المنطقي يستلزم أن تعرف أول شيء نوعية الجناية، والحكم عليها؛ هل هي عمد أو خطأ أو شبه عمد؟ سواء كانت في النفس أو في البدن، فإن كانت الجناية على النفس فنبحث كيف يحكم بها؟ وكيف تثبت؟ ثم بعد ذلك ينظر في الجاني والمجني عليه، وشروط الاستيفاء منهما، ثم بعد ذلك ينظر في عفو الولي، أو طلبه للقصاص.

وبعد ذلك يشرع طالب العلم في دراسة الجناية على البدن والأعضاء على حدة.

فالمصنف-رحمه الله- جعل الثلاثة الأبواب الأولي في الجناية على النفس، وجعل الباب الأخير وما يتبعه منفصلاً في الجناية فيما دون النفس.

وقد تحدثنا عن هذه المنهجية حتى يكون طالب العلم على دراية قبل الدخول في التفصيل؛ فإن أكثر ما يعين طالب العلم على الفهم والضبط للمسائل: أن يكون عنده تصور مبدئي لمنهج العلماء رحمهم الله في التقسيم، ومن هنا نجد الأئمة رحمهم الله حينما يؤلفون الكتب في المسائل الفقهية أو نحوها، يذكرون الطريقة التي يتناولون بها المسائل التي يريدون بحثها وبيان أحكامها، وهذا يعطي طالب العلم ملكة وتهيؤاً وتصوراً مبدئياً يساعده على الفهم أكثر، والربط بين الأفكار.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015