قال رحمه الله تعالى: [هما فرضا كفاية] قوله: (هما): أي: الأذان والإقامة فرض كفاية.
فأول ما يعتني به الفقهاء -رحمهم الله- في الأبواب الفقهية أن يبينوا موقف الشارع من هذه العبادة، فيقولون: هل هذا الشيء شرعه الله أو لم يشرعه؟ ثم إذا شرعه فهل شرعه على سيبل اللزوم، أو على سبيل الاختيار، أو على سبيل الندب والاستحباب؟ وحكم الأذان والإقامة مسألة خلافية بين العلماء، قال بعضهم: الأذان واجب والإقامة واجبة، وهذا القول قال به فقهاء الظاهرية رحمة الله عليهم.
والقول الثاني يقول: الأذان والإقامة فرض كفايةٍ إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، وهذا مذهب الحنابلة ويميل إليه بعض الحنفية وبعض الشافعية رحمة الله على الجميع.
والقول الثالث -وينسب للجمهور- أن الأذان والإقامة كل منهما سنةٌ مؤكدة.
وهناك قول رابع لبعض السلف وهو وجوب الأذان دون الإقامة.
وقول خامس وهو وجوب الإقامة دون الأذان.
وأقوى هذه الأقوال وأولاها بالصواب -والعلم عند الله- الوجوب، والدليل على ذلك أحاديث، منها: حديث مالك بن الحويرث، وهو حديث صحيح، وكان مالك بن الحويرث قد هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم هجرة الوفود، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة، ومكث عنده سبع عشرة ليلة، أو تسع عشرة ليلة، قال رضي الله عنه وأرضاه: (أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن شبيبة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلة فظن أنا قد اشتقنا إلى أهلينا فسألنا عمن تركنا في أهلنا فأخبرناه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رفيقاً فقال: ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم ومروهم، وصلوا كما رأيتموني أصلي، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكبركم) وفي رواية: (إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما وصلوا كما تروني أصلي).
فالشاهد في قوله: (إذا حضرت الصلاة فأذِّنا وليؤمكما أكبركم)، ووجه الدلالة أنه أمر، والأصل في الأمر أنه يدل على الوجوب حتى يقوم الدليل على ما دونه، ولذلك قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به أمر إلزام، وبناءً على هذا نبقى على هذا الأصل الذي دل عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقول بوجوب الأذان.
وأكد هذا قوله عليه الصلاة والسلام: (إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت).
وأما الفرق بين قولنا: إنه واجب وقولنا: إنه فرض كفاية فهو أن القول بالوجوب يجعل كل جماعة يلزمها التأذين إلا في المساجد العامة، وأما على القول بالفرضية على الكفاية فيسقط هذا الوجوب عند قيام بعض المصلين بهذا المأمور به، فهذا الفرق بين القول بالوجوب والقول بالكفاية، والقول بالوجوب أقوى لما ذكرناه من دلالة السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفرض الكفاية عند العلماء رحمة الله عليهم معناه أنه إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، كأن يقصد الشرع وجود هذا الشيء ولو من بعض الناس، كصلاة الجنازة، فإذا صلى على الجنازة من تحصل به الكفاية سقط الإثم عن الباقين، وكذا تغسيل الميت وتكفينه، وتعليم العلم، وغيره من الأمور التي تعتبر من أصول الشرع ولا تصل إلى حظ فرض العين، فتُعتبر من فروض الكفايات، فإذا قام بها البعض سقط الإثم عن الباقين.
قال رحمه الله تعالى: [على الرجال المقيمين].
بعد أن بيَّن أن الأذان والإقامة كلٌ منهما فرض كفاية، يرد
Q من الذي يُفرض عليه الأذان، وتُفرض عليه الإقامة؟ فقال رحمه الله: (على الرجال).
فأخرج النساء، والنساء لا يجب عليهن أذان ولا إقامة، ولا تجب عليهن جمعة ولا جماعة، فإذا سقطت الجماعة سقط الأذان والنداء الموجب للجماعة.
وأما لو أن نساءً اجتمعن وأراد رجلٌ أن يؤذن لجماعة النساء، ويصلي النساء جماعة فلا حرج، والدليل على ذلك حديث أم ورقة الثابت في سنن أبي داود، وكانت امرأة صالحة من نساء الأنصار رضي الله عنها وأرضاها، وهذه المرأة الصالحة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألته أن يدعو الله أن تكون شهيدة، فبشَّرها بالشهادة، فشاء الله عز وجل أنها مكثت إلى خلافة عثمان فأتاها عبدان كانا عندها، فمكرا بها وغطاها بقطيفةٍ حتى ماتت، فصدقت فيها معجزة النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت تسمى أم ورقة الشهيدة، وتوصف بهذا الاسم قبل وفاتها رضي الله عنها وأرضاها.
فهذه المرأة الصالحة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألته أن تقيم الجماعة لأهل دارها، قال الراوي: فأذِن لها أن يؤذَّن لها وأن تصلي بهم.
قال: فلقد رأيت مؤذنها قد سقط حاجباه من الكبر -أي: رجلٌ كبير كان يؤذِّن لها، فتجمع النساء وتصلي بهن في بيتها.
فدل هذا الحديث على مسائل: منها: أولاً: مشروعية الأذان لجماعة النساء، لكن من الرجال لا من النساء.
ثانياً: مشروعية الجماعة للنساء، أي أن تصلي النساء جماعة، وهو قول الحنابلة والشافعية، خلافاً للمالكية والحنفية رحمة الله على الجميع، حيث دلّ هذا على مشروعية الجماعة للنساء، ومَنَع منه من ذكرنا، والصحيح مشروعيته على ظاهر هذه السنة.
ويؤخذ من مفهوم قول المصنف: (على الرجال) أن النساء لا يلزمهن الأذان، لكن لو أذن رجلٌ للنساء صح ذلك.
وهل تؤذن المرأة؟
صلى الله عليه وسلم لا؛ لأن صوت المرأة عورة، وهذا أمر قد يُدرك دليله بالشرع، وقد يُدرك بالحس، فقد أُمِرَ النساء أن لا يخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، فدل على وجود الفتنة في صوت المرأة، وأيضاً دليل الحس، فإن من الرجال من يتأثر بسماع صوت المرأة ولو لم تخضع بالقول، ولا مكابرة في دليل الحس، وقد يُستند حكم الشرع إلى دليل الحس إذا وجدت مفسدة يَنهى عنها الشرع، فالنساء لا يؤذِّنّ، ولا يُشرع لهن أذان بناءً على ما يكون من المفسدة المترتبة على ندائهن، ولأن النداء إنما شرع للجماعة ولا جماعة تلزمهن.
وقوله: (المقيمين) مفهوم ذلك أنهم إذا كانوا في سفر فلا يجب عليهم الأذان، ولذلك رتبوا الفرضية على الأمصار دون حالة الأسفار، فقالوا: إذا سافر القوم لا يلزمهم أن يؤذنوا، وما ذكرناه من ظاهر النصوص يدل على أن الإنسان يؤذن ولو نزل في برية، وذلك أن مالك بن الحويرث وصاحبه أمرهما النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤِّذنا، فقال: (إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكما)، وهذا إنما يكون في السفر؛ لأنه لو كان المراد قدومهم على قومهم لقال لهم عليه الصلاة والسلام: إذا حضرت الصلاة فأذنوا بأهليكم.
ولكن قال: (فليؤذن أحدكما وليؤمكما أكبر كما)، فدل على أنهما في السفر، وهذا يؤكِّد على أن الوجوب على الإطلاق سواءٌ في السفر أم الحضر.
قال رحمه الله تعالى: [للصلوات الخمس المكتوبة].
قوله: (للصلوات) اللام للاختصاص، أي أن الوجوب واللزوم والفرضية على الرجال المقيمين مختصة بالصلوات، فخصَّص المصنف رحمه الله الحكم بفرضية الكفاية على المكلَّفين فقال: (على الرجال المقيمين)، وخصه بالصلوات فقال: (للصلوات الخمس المكتوبة).
وهذا هو الأصل المعروف، فالنداء بالأذان يختص بالصلوات الخمس، وهي التي يُشرع التجمع لها، وأما ما عداها من الصلوات فقد يُشرع النداء لها بلفظ مخصوص كقولهم: (الصلاة جامعة) في صلاة الخسوف ونحوها، وقد لا يشرع لها لا أذان ولا إقامة، كصلاة العيدين، فإن صلاة العيدين لا يشرع أن يؤذن ولا أن يُقام لهما.
قال رحمه الله تعالى: [يقاتل أهل بلد تركوهما] أي: يُقاتل أهل بلدٍ تركوا الأذان والإقامة؛ لأن الأذان شعيرة من شعائر الإسلام، ولذلك قال بعض العلماء: يُحكم على البلد بالإسلام إذا وُجِد فيه الأذان، وهذا يسمونه الحكم بالظاهر، والدليل على أنه من شعائر الإسلام وأن البلد الذي يُقام فيه الأذان لا يُقَاتل أهله ما ثبت في الحديث الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا بنا قوماً لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر، فإن سمع أذاناً كف عنهم، وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم).
وكما جاء في حديث أنس في الموطأ: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل على أهل خيبر، وكان ذلك عند الفجر، انتظر عليه الصلاة والسلام إلى وقت الصلاة، وصبّح يهود وهم خارجون إلى الحرث والزراعة فصاحوا: محمدٌ والخميس.
محمدٌ والخميس -أي: محمدٌ والجيش، والخميس: هو الجيش، فأصابهم الرعب- فقال صلى الله عليه وسلم: (الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين).
، فقاتلهم صلوات الله وسلامه عليه.
والشاهد أن من هديه عليه الصلاة والسلام أنه كان إذا حضر وقت الصلاة انتظر، فإذا سمع النداء كف، وإن لم يسمعه قاتل أهل البلد.