وقوله: [فصل: وإذا بلغ الغلام سبع سنين عاقلاً خُير بين أبويه، فكان مع من اختار منهما].
هذه مسألة التخيير إذا بلغ الغلام سبع سنين، ولما قال المصنف: الغلام، خرجت الجارية، والحضانة تستمر إلى سبع سنين، وإذا بلغ الغلام والجارية سبعاً، فالجارية التي هي البنت ترد إلى أبيها إذا كانت الأم هي الحاضنة.
فمثلاً: طلق رجلٌ امرأته وعندهم بنت، فقضى القاضي بأن البنت لأمها، فبقيت عند أمها تربيها وتقوم على شئونها والأب يصرف عليها حتى بلغت سبع سنين، فبعدها تدفع إلى أبيها؛ لأن الأب أقدر على حفظ البنت، وصيانتها مما يضرها في عرضها، وهي أحوج في هذه الحالة إليه، وأيضاً هو أولى بتزويجها، لأنه وليها، فترد البنت إليه، ومن هنا ذكر المصنف الغلام؛ لأن البنت إذا بلغت السبع رُدت إلى أبيها، وتحديد السبع السنين مبني على سن التمييز.
وهناك سن للتمييز وسن للرشد والعقل الذي هو البلوغ، وهو أن يكون بالغاً سن الحلم، فأما سن التمييز فهو السن الذي يميز فيه الصبي الأمور، وبعض العلماء يضبطها بالعدد، فيقول: سبع سنين، وبعضهم يضبطها بالحال، فيقول: أن يفهم الخطاب ويحسن الجواب، فمثلاً لو قيل له: ماذا تفعل؟ يقول: أفعل كذا وكذا، نقول للذي يفعل: لماذا تفعل؟ يقول: أفعل من أجل كذا.
فإذا فهم الخطاب وأحسن الجواب، فإنا نحكم بتمييزه ولو لم يبلغ سبع سنين؛ لأن الأطفال يختلفون، وهذا القول لا شك أنه صحيح، فإن الأطفال يختلفون فهماً وإدراكاً، ولذلك كان الضبط بالحال له وجهُ، لكن لما جاءت السنة بالأمر بالصلاة لسبع، صار أصلاً غالباً أنه لا يصل إلى سبع إلا وقد ميز، والاستئناس بالمشروع والوارد أفضل وأولى، والأصل أن نقدم الوارد على غير الوارد، ومن هنا صارت السبع ميزاناً، وقد مرت بنا مسائل كثيرة في العبادات والمعاملات ربط العلماء بها الحكم بالسبع سنين.
فبين المصنف رحمه الله أن سن التمييز هو السبع، والأصل في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اختلف الرجل مع زوجه والحديث صحيح على شرط مسلم (خير النبي صلى الله عليه وسلم الغلام، وأمر أباه أن يجلس في ناحية وأمه في ناحية، فقال له: هذا أبوك وهذه أمك اختر أيهما شئت، فاختار أمه) وهذا بالنسبة للغلام الذكر، فيبقى مع من يختار منهما، وحينئذٍ قضى العلماء رحمهم الله بهذا الحكم، وأجمعوا على مسألة التخيير.
وانظر سمو منهج هذه الشريعة الإسلامية في المحضون، فإنه إذا كان دون الإدراك ودون التمييز ينظر إلى مصلحته والأرفق والأعدل به، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمه أولى به؛ ولذلك قضى النبي صلى الله عليه وسلم وقضى الصحابة رضوان الله عليهم أن الأم أحق، فقال عليه الصلاة والسلام: (أنت أحق بها ما لم تنكحي).
وعمر بن الخطاب في قصته المشهورة لما فصل القضية في الرجل الذي اختطف ولده من عند جدته وأمه، فاشتكته إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فقال له: ريحها وحضنها أطيب له منك، يعني: من الوالد؛ لأنه في هذه الحالة أحوج ما يكون إلى اليد الحانية والأم المشفقة، فجعل الأصل في حضانة الصغير أن تتولاها الأم، ثم بعد ذلك إذا ميز الصبي فلا يكره على والدٍ ولا على والدة.
فهذه هي الحرية المعقولة، المنضبطة المبنية على أسس سليمة صحيحة، فيخير؛ لأن هذا من الوحي، وهي الحرية المبنية على الحق الذي قصه رب العالمين الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين، ففصل الله عز وجل بهذا، فيقال له: اختر أيهما شئت: إن اختار الوالد فيكون مع والده، وإن اختار الوالدة فيكون مع والدته.
ولو أنه غير هذا الاختيار، فاختار الأسبوع الأول أن يكون مع الوالد، فقال: أريد أبي فيرجع إلى أبيه، وإذا قال: أريد أمي فيرد إلى أمه ولا يكره، ولا يضيق عليه، ويجعل الأمر على الشيء الذي يرتاح إليه الطفل، فإذا كان يرتاح للوالد والوالدة حرص كلٌ منهما على الإحسان إليه والملاطفة به، خاصة من بعد السبع السنين، فهو يحتاج إلى شيء من الإحسان والبر حتى يعقل الأمور ويميز، فإذا وصل إلى سن الرشد، فلا إشكال حينئذٍ، ومن هنا قضى العلماء رحمهم الله بالتخيير، لكن هذا التخيير له أصول؛ كأن يكون منضبطاً، فإذا اختار الوالد من أجل العبث واللعب منع من ذلك.
ومن هنا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله عن صبيّ أنه خيره القاضي، فقال له: هذه أمك وهذا أبوك فاختر أيهما شئت، فاختار أباه، فقضى القاضي أنه لأبيه، فقالت المرأة الموفقة العاقلة الحكيمة: يرحمك الله أيها القاضي، سله لماذا اختار أباه؟ فسأله القاضي: فقال هذا الصبي: إن أمي تبعث بي إلى المعلم فيضربني، وأما أبي فيبعثني إلى الأولاد فألعب معهم، فقال القاضي: هو لأمه؛ لأنه إلى الآن لم يميز وأصبح تخييره قائماً على الهوى، وتبين أن الوالد لا يريد مصلحته، فإذاً: ليست القضية قضية حرية منفردة؛ لأن الصبي لا عقل عنده، ولم يصل إلى سن الإدراك، فإذا كانت المصلحة في بقائه عند أمه أبقاه؛ لأن أمه ستعلمه، قالوا: وإنما لم يخير لأن الوالد عليه أمانة التعليم والرعاية للولد، فضيع هذه الأمانة، حتى أن الأم صارت هي التي تقوم على تعليم الولد.
ونسأل الله السلامة والعافية من أمور تتقرح لها القلوب، لو أن الإنسان يسمع أقضية الناس وفتاويهم لتقرح قلبه مما يسمع ويرى من إهمال الآباء لحقوق الأولاد، يتزوج الرجل وينجب، ثم يبحث عن الثانية والثالثة، ويطلق السابقة ولا يبالي بأولاده ولا ينظر إليهم.
إنما المهم أن يشبع شهوته وغريزته دون التفات إلى هذه الحقوق وإلى ما فيه مصلحة الولد، فهذه أمانة ومسئولية عظيمة، فالتخيير شرطه أن لا يكون فيه ضرر على الولد، فإذا كان فيه ضرر على الولد رجع إلى الأصل، فإذا كانت الأم عُرِفت بصلاحها واستقامتها وعنايتها وضبطها للولد وكانت بيئة الوالد فيها إفساد وإضاعة ومجون وهوى، فحينئذٍ للقاضي أن يتدخل.
فيختار جمعٌ من العلماء والأئمة والمحققين: أن الشرع ينظر إلى التخيير فيما فيه مصلحة الولد كما ذكرنا، لكن شريطة أن تكون منضبطة بالأصول الشرعية، إذ لا يعقل أن نقول: يقضي القاضي بأنه لأبيه، وأبوه يفسده، ولا يمكن أن نقول: إن القاضي يقضي بحكم الله عز وجل بما فيه ضرر للولد وفساد، فالتخيير ضبطه بعض العلماء بشرط ألا يكون موجباً لضرر على الولد في دينه أو دنياه.