قال رحمه الله: [فإن عجز عن نفقتها أجبر على بيعها].
يقول رحمه الله: (إن عجز) المالك عن نفقة بهيمته، (أجبر على بيعها)، وهذه مسألة خلافية بين العلماء رحمهم الله: لو أن إنساناً ملك بهائم ثم افتقر ولم يستطع أن يشتري طعامها، هل يجبر على بيعها، أو لا يجبر؟ جمهور العلماء: المالكية والشافعية والحنابلة رحمة الله عليهم على أن القاضي يجبره على بيعها.
وذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله وأصحابه: إلى أنه ليس من حق القاضي أن يجبر صاحب البهيمة على بيع البهيمة؛ والسبب في هذا: أن الإمام أبا حنيفة نظر إلى مسلك قضائي، ووجهه: أن الدعاوى لا تكون في القضاء إلا وجد الطرفان المتنازعان، وسأل صاحب الحق حقه، وصاحب الحق هنا بهيمة، وليس هناك مسلك قضائي يقيم البهيمة خصماً قضائياً لمالكها، صحيح لو كانت البهيمة إنساناًَ، والإنسان هذا طالب بحقه، صح قضاءً أن تجرى الخصومة، وتكون خصومة شرعية، لكن البهيمة لم ترفع الدعوى ولم تدع ولم تشتك بسيدها ومالكها، فالإمام أبو حنيفة يقول: لا يصح أن يقال: إن القاضي يحكم على المسلم ببيع ماله، فالمال ملك له، وحينئذٍ لا يلزم ببيعه، لكن يقول: يأمره بالعدل وبالإحسان، ويحثه على إطعامها أو بيعها، لكن لا يلزمه.
وذهب الجمهور إلى غير ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (السلطان ولي من لا ولي له)، وهذه بهيمة ولا ولي لها، وهي لا تستطيع أن تسأل حقها، فولي الأمر ولي لمثل هذه الأمور، فهو منصب كالناظر في مصلحتها.
فمسلك الجمهور أعدل، وأقيس، وأقعد للأصول، وهم إن شاء الله أولى بالصواب.
وبناءً على ذلك: نجبر صاحب البهائم على بيعها، لكن هذا فيه تفصيل: إذا كانت عنده بهائم كثيرة فلا نجبره على بيعها جميعها، بل نجبره على بيع العدد الذي يمكن من خلاله شراء الطعام للعدد الباقي.
فلو كانت عنده بهيمتان؛ فلا نقول له: يجب عليك بيع البهيمتين إذا لم يطعمها، بل نقول: بع واحدة، وأنفق على الثانية من نفقة هذه الواحدة.
فلا يجبر على بيع الجميع، إنما يجبر على بيع البعض إذا كان البهائم فيها عدد كثير يمكن بيع بعضها وإبقاء البعض.
وهذا مبني على أصل شرعي: أن الأصل بقاء اليد، وأن القضاء لا يتدخل بنزع اليد والملك إلا عند الضرورة.
وهذه القضية هي التي أثنى الله فيها على حكم سليمان عليه السلام وجعله أفضل من حكم داود عليه السلام: رجل غفل عن غنمه، فأكلت الغنم زرع غيره، فاختصم صاحب الزرع وصاحب الغنم إلى داود عليه السلام، فنظر داود ووجد أن قيمة الطعام الذي أكلته البهيمة تعادل قيمة الغنم، فحكم وقضى عليه السلام: أن صاحب المزرعة يملك الغنم، وحينئذ أخلى صاحب الملك عن ملكه، فلما خرج قال سليمان: لو كان الأمر إلي لحكمت بغير هذا؛ لحكمت على صاحب الغنم أن يأخذ الأرض يزرعها، فيعيدها كما كانت، وأن يأخذ صاحب الأرض غنم الرجل فيشرب من حليبها، وينتفع بها حتى يعود إليه زرعه.
فقال الله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79].
فأثنى الله على حكم سليمان وفضله على حكم داود، والسبب في هذا أنه أبقى يد الملك، ولم يحكم بانتقال الملكية؛ فراعى الأصل، ومن هنا لا نقول: بأنه يجب عليه بيع جميع الغنم أو البقر أو الإبل، بل تبقى يد الملكية، ويبيع بقدر الحاجة فقط.
لأن القاعدة تقول: ما أبيح لأجل الحاجة يقدر بقدرها، فنحن مضطرون للإنفاق على البهائم، فنقدر قدر الإنفاق، ونوجب عليه البيع بقدر ذلك، ولا يلزم ببيع، وإذا قلنا: يبيع بعض الغنم، فإن كان الغنم كله بحالة واحدة جيدة أو رديئة فلا إشكال، لكن إذا كان بعضه أجود من بعض، فإن القاضي لا يجبره على بيع الجيد، وإنما يجبره على بيع الرديء؛ لأنه يتضرر بيع الجيد كما لا يخفى.
قال رحمه الله: [أجبر على بيعها، أو إجارتها].
نقول له: بعها أو أجرها؛ لأنه إذا أجرها أمكنه أن يأخذ الأجرة، وينفق عليها ويطعمها.
قال رحمه الله: [أو ذبحها إن أكلت].
إذا قال: ليس هناك من يستأجرها، قلنا له: بعها، ففصلنا بنفس التفصيل الذي تقدم.
في هذه الحالة إذا لم يمكن إجارتها ولا بيعها، قال: يؤمر بذبحها؛ لأن الحيوان في هذه الحالة سيموت ويهلك؛ لأنه إذا لم يجد طعاماً فإنه سيهلك لا محالة، وحينما يهلك بالذكاء أفضل من أن يهلك حتف نفسه.
وهذه المسألة بنيت عليها مسألة وهي: إذا مرضت البهيمة، وتعذبت بمرضها، أو وجدت بهيمة فيها عاهة وتعذبت بهذه العاهة، وذكاها من أجل أن لا يأكلها ولكن من أجل أن يريحها بالموت، وهذا ما يسمى بقتل الرحمة.
فقتل الرحمة: منع منه طائفة من أئمة العلم رحمة الله عليهم، وقالوا: الله أرحم بخلقه، ونحن لسنا مسئولين عن هذه البهائم، إنما نحن مسئولون عما نملك، وأما قتلها وإزهاق روحها لغير الأكل فمنهي عنه شرعاً، فكونها فيها عاهة، فالله خلقها على هذه العاهة، فلا يتدخل مخلوق في أمر الله عز وجل، وهو أعلم سبحانه وتعالى بخلقه.
وقال بعض العلماء: يجوز أن يذكيها وأن يقتلها إذا رآها تتعذب، ولكن في الحقيقة إذا كانت حالة الذكاء تمكن من الانتفاع بها، وكان تركها لا يمكن من الانتفاع، قدمت الذكاة، والدليل على ذلك كما ثبت في الحديث الصحيح: أن امرأة كانت ترعى غنمها بسلع، وسلع كان خارج بناء المدينة قديماً، وإلا فهو داخل حدودها، وكان سلع أشبه بالمرعى لأهل المدينة لأنه خارج العمران، وكان سلع إلى إلى الثمانين هجرية خارج سور المدينة، مع أنه لا يفصله عن المسجد بعض الأحيان إلا ميلاً واحداً، فمع هذا كانت ترعى في هذا الموضع، فهجم الذئب على غنمها، وأخذ شاة وبقر بطنها، فاستغاثت المرأة، ففر الذئب، وأخذت الشاة تخرج أمعاؤها، فقامت المرأة وكسرت حجراً، وذكت الشاة، فلما ذكت الشاة سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن هذه البهيمة؛ فأجاز أكلها وأحلها.
وهذا الحديث العجيب مع أنه واقعة عجيبة، إلا أن فيه من دقائق ونفائس الأحكام الكثير، بل هو من غرر الأحكام.
منها: أن هذا الحديث فرعوا عليه قاعدة فرعت عليها مسألة موت الدماغ الموجودة الآن.
هذا الحديث أخذوا منه مسألتنا هذه وهي: أن المرأة قتلت البهيمة وذكتها، لأنها لو تركتها ستموت حتف نفسها فتصبح ميتة، فلا ينتفع بها.
وإذا ذكتها صلحت للأكل فانتفع بها.
وفرق بعض العلماء بين قتل الرحمة، وبين هذه المسألة؛ فقتل الرحمة: أن تقتل البهيمة ولا تؤكل، وهنا تقتل البهيمة وتؤكل.
والأصل أن البهيمة مخلوقة للآدميين للانتفاع بها، وقتل الرحمة يخوف الانتفاع، لأنه البهيمة يكون فيها مرض، ولا يمكن الانتفاع بها، وغالباً ما يكون المرض مضراً، أو نحو ذلك.
الشاهد: أن حديثنا هذا أخذ منه جواز قتل البهيمة، لكن لو كان قتلها للمنفعة، مثلاً: دهستها سيارة، فإذا تركت ماتت حتف نفسها، فلم يحل أكلها، فيأتي الشخص فيذكيها حتى تصلح للأكل، لكن إذا ذكاها في هذه الحالة، فهل القاتل الذي دهسها؟ أو الذي ذكاها؟ هذه مسألة مهمة-هي التي تفرع عنها مسألة موت الدماغ- الحياة المستقرة هل هي كالعدم أو هي حياة؟ الحياة المستقرة: هي أن تضرب البهيمة ضربة قاتلة، وترفس وهي في آخر رمق من حياتها، فلو أنها ذكيت، وقلنا: إن حياتها في هذه الحالة حياة مستقرة، فالذكاة صحيحة ويحل أكلها؛ لأنها ماتت بالذكاة، وإن قلنا: إن الروح شبه مزهقة؛ فحينئذ لا تنفعها الذكاة لأنه قد استنفذت روحها.
فوجه دخول هذه المسألة: أنه إذا كانت البهيمة تتعذب، وتتضرر بالمرض، وأراد ربها أن يقتلها، فإنه: يجوز قتلها، ومن هنا قالوا: يؤمر بذبحها، لكن الأمر بذبحها لا يمنع من أكلها بعد الذبح، فهي شبيهة بالحديث الذي معنا، لأنه إذا ذبحها دفع الضرر عنها، وحل أكلها، ولكن إذا تركها ماتت حتف نفسها، فلم تصلح للأكل.
وحينئذ يستقيم قول المصنف رحمه الله: إنه يؤمر إما ببيعها، أو إجارتها، أو ذبحها.