قال رحمه الله: [ويريحه وقت القائلة والنوم والصلاة].
للرقيق حقوق ينبغي أن يتقي المولى الله فيها، فلا يجوز أن يضيق عليه في هذه الأمور التي جعلها الله من الفطرة، وسجية الإنسان أنه يحتاج إليها، فلا يضيق عليه في نومه وراحته، ولا يحمله ما لا يطيق، ولا يرهقه في وقت نومه وقيلولته، بل يمكنه من النوم في ساعات النوم، ومن القيلولة في ساعة القيلولة.
وهذا يدل على أنه لا يجوز للسيد أن يؤذي مولاه أو رقيقه في وقت راحته أو يزعجه ويحمله ما لا يطيق، فما بالك إذا كان عاملاً بأجرة متفق عليها أو أجرة على العمل في وقت معين؛ فيأتي ويرهقه ويستغل ضعفه ويطالبه بالعمل في وقت راحته، هذا من الظلم والأذية والإضرار، ولا يجوز للمسلم أن يؤذي أخاه المسلم.
وكما أنه لا يجوز له أن يضايقه بالحس، بأن يطالبه بالعمل أثناء نومه أو أثناء راحته، لا يجوز كذلك أن يؤذيه بالمعنى، والأذية بالمعنى هي السب والشتم، فلا يشمته ولا يسبه ولا يؤذيه بالإهانة؛ لأن للمسلم حقاً في عرضه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد)، فجعل خطبة حجة الوداع التي كان الناس أحوج ما يكونون فيها إلى تبيين الأمور العظيمة، جعل فيها بيان حق عرض المسلم، وقرن العرض بالدم، فكما أنه لا يجوز لك أن تقتل المسلم فكذلك لا يجوز لك أن تستبيح عرضه، ولا يظن أحد أن عرض المسلم رخيص، أو أن الكلام في الناس أمرٌ هيّن؛ ولذلك قال الله تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15].
ومن هنا: فإذا كان السيد مع عبده لا يستطيع أن يطيل لسانه عليه، فما بالك بالمسلم مع أخيه المسلم، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الترمذي: (أن رجلاً اشتكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! إنني لي موالي آمرهم فيعصونني؛ فأسبهم وأشتمهم وأضربهم، فما تأمرني يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إذا كان يوم القيامة نُظِر في أمرك وعصيانهم لك، وسبك وشتمك وضربك لهم ثم يقتص، فتولى الرجل يبكي، وقال: أشهدك أنهم أحرارٌ لله)؛ لأنه يخاف من الله عز وجل.
وفي حديث أبي مسعود أنه غضب على عبدٍ من عبيده، فأخذ السوط وضربه، قال: (فسمعت صوتاً من ورائي يقول: اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك عليه)، أي: لا تحسب أن كونه مولى وأنه ضعيف أن الله سبحانه وتعالى سيفلتك من عقوبته إن اعتديت عليه وأضررت به، قال: (فالتفت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: أشهدك أنه حرٌ لوجه الله)، فأمر الرقيق ليس هملاً في الإسلام، لا يستبيح الناس الأرقاء بما شاءوا أبداً، إنما بقيود.
فإذا كان هذا حال السيد مع رقيقه فكيف بالعامل الذي يكون غريباً عن أهله ووطنه وولده وهو يتكسب الرزق الحلال؟ وهذا من أشرف وأعظم ما يكون للعبد، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام: (إن نبي الله موسى آجر نفسه لطعمة بطنه وعفة فرجه)، فجعل هذا شرفاً لنبي من أنبياء الله أن جعل نفسه أجيراً من أجل طعمة البطن وعفة الفرج.
فالعامل إذا تغرب عن أهله وولده هو أحوج ما يكون إلى من يرحمه ويحسن إليه، ويتصور الإنسان حينما يسافر عن أولاده اليوم واليومين في نفس بلده ومكانه، كيف يجد من الألم والشجى والحزن، فما بالك بأخيك المسلم إذا كان غريباً عن أهله وماله وولده ويعاني الأمرين من تشوش فكري من أمور قد تكون نازلة به؛ فهو أحوج ما يكون إلى الرفق والرحمة.
الرقيق ملك للإنسان ملكه الله إياه، ولكن عند خطئه إذا ضربه وآذاه وأهانه اقتص منه، فما بالك بالمسلم إذا كان غريباً لأمرٍ يريد به عفة نفسه وأهله وولده وطُعمة بطنه؟ فالأمر آكد والحق ألزم؛ ولذلك كتب على المسلمين أن يتقوا الله، وأن يتقي الله بعضهم في بعض، وأن يخافوا الله عز وجل من حقوق إخوانهم؛ لأن أعظم ما يضر بالإنسان يوم القيامة بعد الكفر بالله عز وجل الحقوق والمظالم، وأخبر صلى الله عليه وسلم: أن عقول الناس تطيش وتصاب بالرعب الشديد مما ترى في صفحات الأعمال من الحقوق التي بين الناس.
فالواجب على السيد أن يتقي الله في المولى، وأن يشعر أن كونه رقيقاً ليس معناه أنه يسبه ويشتمه دون أن يحاسبه الله عز وجل على سبه وشتمه ومخاصمتهما.
قال رحمه الله: [ويريحه وقت القائلة والنوم والصلاة].
القائلة تكون قبل الظهر، وهي القائلة المحمودة، وغالباً ما تعين على قيام الليل، وقد تستمر بعد الظهر فيستجم بها الجسم، فكانوا يريحون أنفسهم غالباً بعد الظهر إذا كانوا من أصحاب الأعمال؛ لأن وقت الظهر يشتد فيه وهج الشمس فيخلد الناس إلى الراحة، ولا يستطيع العامل أن يعمل في هذا الوقت، إذاً: يريحه وقت القائلة، ويمكنه من وقت القيلولة التي تكون في النهار ووقت النوم الذي يكون في الليل، وهكذا لو أنه سافر معه، فاحتاج أن ينام نهاراً كأن يكون سرى بالليل، فعليه أن يمكنه من النوم نهاراً.
وكذلك أيضاً يريحه وقت الصلاة، وهذا يدل على أن للعامل حقاً في أن يُمكن من الراحة وقت الصلاة؛ لأنه حقٌ لله عز وجل، وحق الله مقدمٌ على حق خلقه، فهو مالك المملوك وما ملك، فهو سبحانه المالك لخلقه، وملكية السيد لعبده نسبية، ولكن ملكية الله سبحانه وتعالى للخلق ملكية مطلقة، وبناءً على ذلك: لا يجوز أن يضيق عليه في وقت صلاته أو يطالبه بالعمل في وقت الصلاة، بل يعطى وقتاً للوضوء ووقتاً للصلاة، وإذا أعطي وقت الصلاة فعلى المملوك أن لا يشتغل عن ذلك، وكذلك العامل في عمله والموظف في وظيفته إذا جاء يصلي، فعليه أن يحدد قدر وقت الحاجة ويذهب ويتوضأ مباشرة، ثم يؤدي صلاته ويرجع إلى عمله مباشرة.
وأما أن يستغل وقت الصلاة من أجل أن يجلس ويعقد ندوة أو كلمة من أجل مصالح للمسلمين، فلا يمكن للإنسان أن يشتغل بالنوافل على حساب الحقوق الواجبة، وأما جلوسه مع إخوانه وزملائه في العمل، فهذا له وقت آخر غير أوقات الوظيفة وأوقات الحقوق الواجبة التي ترتبط بها مصالح المسلمين، والله عز وجل لا يطاع من حيث يعصى.
وينبغي للمسلم أن يعلم أن وقت الوظيفة أمانة في عنقه، خاصة إذا كان هناك ارتباط بمصالح المسلمين العامة، وليعلم أن الثانية في مصالح المسلمين أجرها عظيم؛ فضلاً عن الدقيقة فضلاً عن الساعة، فكما أنه يحب الله ويطيع الله في سجوده وركوعه فليعلم أنه متقربٌ لله سبحانه وتعالى في كل مصلحة من مصالح المسلمين، ولربما تكون الدقيقة اليسيرة وهو في مصلحة الطب والعلاج أو قضاء حوائج المسلمين العامة تعدل ساعات من العبادة؛ لأن ساعات العبادة نفعها قاصر، وأما ساعات الوظيفة فقد يكون نفعها متعدياً، وقد يأتي الشخص الغريب المسافر والمكروب فيوسع عليه ويفرج كربته، فالمولى والرقيق لا يشتغل وقت الصلاة من أجل أن يتوسع في النوافل إنما يقيد وقت الصلاة، وينظر إلى قدر الحاجة والزائد على ذلك المستحق للعمل؛ لأن ساعات الوظيفة وساعات العمل إجارة بالزمان.
والقاعدة في إجارات الزمان: أن وقتها يستغل بكامله في العمل؛ لأنه اتفاق بين الطرفين على استنفاذه في العمل إلا إذا استثني شيء شرعاً.
فيخرج إلى الصلاة ويؤدي حق الله عز وجل ثم يرجع مباشرة، وإذا أمكنه أن يصلي في مكان قريب وبعيد فإنه يقدم المكان القريب على البعيد، ولو كان هناك فضائل في البعيد كالصلاة في داخل الحرم بمائة ألف صلاة وفي مكان آخر الصلاة فيه لا تضاعف فإنه ينظر إلى أقرب مكان؛ لأن ما أبيح للضرورة والحاجة يقدر بقدرها، ويكتب له أجر الصلاة في المكان المضاعف بالنية؛ لأنه حبسه العذر، كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن المعذور يكتب له أجره كاملاً تاماً.
فيريح السيد مولاه ساعة صلاته وساعة نومه وقيلولته، ومن باب أولى إذا كان المولى مريضاً، فلما قال: يريحه وقت القيلولة ولصلاته ونومه؛ فكذلك يريحه عند مرضه وسقمه، فإذا مرض العبد فإنه يعطى الراحة، وهكذا العامل، والعامل إذا كان مريضاً ومرضه لا يمكنه من العمل فله أن يترخص، وأما إذا أمكنه أن يقوم بالعمل مع المرض دون حرج، فإن الله يأجره على ذلك، فالأصل يقتضي أنه لا يحمله ما لا يطيق، فإن المريض لا يطيق أن يعمل أثناء مرضه.