Q ما حكم الاستفادة من حاجيات المسجد، كالمكيفات والسجاد في مصالح خيرية أخرى، كوضعها في مدارس التحفيظ أو سكن الإمام أو بعض أمور الدعوة، علماً بأن هذه الحاجيات لا تستعمل في المسجد؛ نظراً لاستبدالها بأخرى، وهي ملقاة في مستودع المسجد، أثابكم الله؟
صلى الله عليه وسلم هذا السؤال يحتاج إلى أمور ينبغي التنبيه عليها: أولاً: المساجد إذا كانت مرتبطة بجهات تتحمل المسئولية عنها، فهي المسئولة عنها أمام الله عز وجل، وهي التي تنظر في مصالحها، وتقوم بصرف حوائجها على حسب ما يقتضيه الأمر كما هو معلوم، ولذلك لا يتدخل الأفراد إلا عن طريق هذه الجهات المسئولة عن هذه الأشياء إذا كانت في المسجد خاصة، فينبغي أن يعلم أن كل شيء في المسجد أوقف عليه ينبغي أن يبقى في المسجد، ولا يجوز إدخال الأشياء الجديدة، وإخراج القديمة طلباً للأكمل والأجمل والأفضل؛ لأن أي شيء يوقف فمعناه: أنني أخرجته من ملكي صدقة لله عز وجل، ولذلك لا يملك أحد ذلك الشيء.
ومن هنا لا يجوز بيع الوقف ولا هبته، ولا شراؤه؛ لأنها خلت اليد عن الملكية، حتى ولو قال: هذا المسجد ملك لي، نقول: ليس ملكاً لك؛ لأنك أوقفته لله، وبناءً على ذلك فصاحب المسجد لا يملك المسجد؛ لأنه خرج بالوقفية لله عز وجل والتسبيل، ومن هنا قال ابن عمر رضي الله عنهما في حديث عمر الذي هو أصل الأوقاف كما في الصحيحين: (فتصدق بها عمر رضي الله عنه إلى أن قال: على أن لا يباع أصلها) أي: لا يباع أصل الرقبة المسبلة من حد السهم.
فهذا أصل عند العلماء، فإذا كان في المسجد مكيف أو مصاحف أو كراسي المصاحف، أو فراش أو ساعات أو إضاءة وأنوار، فإنها تترك كما هي حتى تتلف وتتعطل تماماً، لأنها موقوفة ومحبسة على هذا المسجد، ومن أوقفها وحبسها يريد ثوابها عند الله عز وجل، فلا يجوز لأحد أن يأتي ويقطع أجره وخيره، ويقول: أنا أريد أن أحدث فراشاً جديداً، فالمساجد ليس محلاً للمباهاة، هذه المساجد المقصود فيها صلاح القلوب والقوالب والتوجه إلى الله عز وجل، ولو كانت مفروشة بالحصى.
فإن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن مفروشاً، ولم يكن مزيناً ولا منمقاً، صلوات الله وسلامه عليه، هذه أماكن عبادة، وأدخل الله عز وجل إليها الأغنياء والأثرياء وهم في أوج غناهم وثراهم لكي يذلوا بين يدي ربهم عز وجل بالسجود على الأرض ولو كانت تراباً، ويذلوا بين يدي الله عز وجل حينما ينكسر كبرياؤهم فيصلي عن يمينهم الفقراء وعن يسارهم الضعفاء، ليست أماكن مباهاة.
وهذا مقصود الشرع فيها.
ولذلك كان من علامات الساعة المباهاة بالمساجد فيما ورد في أكثر من أثر، ومن هنا مسألة الغلو؛ فكلما وجدنا شيئاً قديماً في المسجد سحبناه وأتينا بشيء جديد، ليس المسجد محلاً للتنافس في هذه الأمور التي يقصد بها الكمالات، لكن لو تعطلت مصلحة هذا الشيء فأصبح المكيف لا يشتغل، فإن أمكن تصليحه يصلح، ونقول للشخص: إذا أردت أن تتصدق فأصلحه حتى يكون صدقةً عليك وعلى صاحبه الذي أدخله، وحينئذ تنصح لعموم المسلمين وتنصح لإخوانك المسلمين الذين تقدموا، تريد أن تشتري شيئاً جديداً اذهب وابحث عن مسجدٍ لا يوجد فيه مكيف واشتر له.
أما أن تأتي إلى هذا المسجد المسبلة فيه هذه الأوقاف وتتصرف فيها بهذا فلا.
ثانياً: الصرف إلى الجهات الخيرية الأخرى، هذا أمر استثناه بعض العلماء في مسائل ضيقه تحتاج إلى حكم القاضي، إذا تعطلت مصلحة الوقف في جهة من أوجه الخير، ولها جهة تشبهها صرفت إليه، وهذه المسألة اختارها بعض العلماء، وبعض العلماء يقول: لا يصرف إليه، بل يبقى حتى ولو تعطلت مصالحه لأننا لا نملكه، ولا يملك أحد التصرف فيه، واختاره جمع من المحققين كـ شيخ الإسلام في أكثر من مسألة، أنه إذا تعطلت مصلحة الوقف أو كان الوقف على محرم صرف إلى الأشبه، مثلاً لو أوقف على بدعة أو ضلالة صرف إلى طلاب العلم؛ لأنه لما أوقف على البدعة كان يظنها قربة، فننظر إلى الشيء المثيل لها في الذكر ونصرفه إلى طلاب العلم، حتى تصرف في وجهها المعتبر، هذا يختاره بعض العلماء؛ لأن الإعمال أولى من الإهمال؛ فبدلاً من تعطيل الوقف وإهماله يعمل أفضل من أن يكون باطلاً من أصله ولا يعمل.
على كل حال من حيث الأصل أوصي الإخوان ونفسي بتقوى الله عز وجل، وأوصي الأئمة وجيران المسجد أن يتقوا الله في مصالح المسجد الموقوفة عليه، وأن يجتنبوا الأمور المبالغ فيها، فالبعض يظن أنه يتقرب بهذا إلى الله عز وجل حينما يقول: نكيف بيت الله عز وجل، وإذا ما أصلحنا بيت الله فما نصلح وكذا.
لا يعمر المسجد شيء مثل ذكر الله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36]، أول ما ذكره الله عز وجل الذكر من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والتواد والتعاطف والتراحم، لا تعمر المسجد بشيء أعظم من الإيمان بالله عز وجل.
وإذا أردت أن تكون من عمار المسجد حقيقةً فانظر إلى أمرين اثنين هما أساس بناء المساجد، أولاً: أنك إذا دخلت المسجد تدخل بتوحيد الله حتى تخرج منه وفي نفسك من الإيمان حينما خرجت أعظم وأسمى منها يوم دخلت، فإذا فعلت ذلك فوالله قد عمرت بيت الله عز وجل وجزيت خيراً على ما صنعت، ولن يضع الله أجر من أحسن، فمن أخلص بالتوحيد، هذا أول شيء تعمر به المسجد.
ثانياً: تعمر المسجد بحقوق إخوانك المسلمين، إذا أصبحت مساجدنا مزينة منمقة جميلة، وأصبح الرجل يدخل المسجد ويخرج من المسجد ولم يصافح أخاً له مسلماً، وإذا أصبحت مساجدنا جميلة منمقة ويجلس الإنسان في المسجد ساعات، وهو لم يتعرف على أخٍ مسلم، ولم يدخل سروراً على أخٍ له مسلم، فأين عمارة المساجد؟ إن الله عز وجل يجمعنا في اليوم خمس مرات على مستوى الحي، ويجمعنا في الجمعة من خارج المدينة مع من يأتي من أهل البادية لكي يتعرفوا على الحاضرة، ثم يجمع الأمة الإسلامية من مشارق الأرض ومغاربها في العام مرة واحدة في الحج، فإذا كانت المساجد تسري على هذه الأهداف السامية والغايات النبيلة؛ عمرت وازدانت وجملت، وازدانت بعظيم الحسنات.
كيف تعمر المسجد لما يكون الفقير إذا دخل إلى المسجد وجد من يواسيه ويكفكف دمعته، ويقضي حاجته، ويبدد بإذن الله همه وغمه وكربه أحب المسجد وأحب بيت الله، وعرف بركة الطاعة والخير، وإذا أصبح كبير السن يدخل للمسجد فيجد صغار المسلمين يقبلون رأسه ويجلونه ويحبونه ويكرمونه ويدخلون السرور عليه حتى نسي همه وغمه، وعاش بكرب من فراق إخوانه وأقرانه، فوجد من إخوانه المصلين الراكعين الساجدين من يتبسم في وجهه، فيمسح عنه دمعته، ويجلي عنه همه وغمه بإذن الله عز وجل حتى أصبح يعود إلى المسجد، حتى إن الرجل تجده من أشد الناس مرضاً وسقماً، لكن إذا قيل له: تذهب إلى المسجد، يفرح وينتشي؛ مما يرى فيه من وجوه الخير وأخلاق الإسلام السامية والكاملة، لكن إذا أصبح يدخل المسجد ويخرج ولا يرى أخاً ولا صديقاً، وإخوانه ذهبوا، وأصبح الناس ينظرون إليه وكأنه كَلٌّ على غيره، يحمل ويوضع، ولا يجد عطفاً ولا رحمة ولا شفقة، فعندها يمل من المسجد -أستغفر الله العظيم- أو يأخذ برخصة الله عز وجل ويقبع في بيته، ويقول: حتى لا تشمت بي الأعداء، وكأنه ينظر إلى الناس كأنهم أعداء.
فهذه هي الأمور التي تعمر بها المساجد، لا تعمر بالقيل والقال، ولا بأمور الدنيا ولا بزينتها، فوالله ما كانت مساجد رسولنا صلى الله عليه وسلم مضاءة إلا بأنوار التنزيل، وهذا لا يعني أننا نترك متاع الدنيا وزينتها، بل نقول: لا مانع أن يوجد الخير وأن تزين المساجد، لكن شريطة ألا تكون فيها الزينة التي تلهي عن ذكر الله.
لكن لو بنى مسجداً وأحسن بناءه فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء: (من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة).
كما في الحديث الصحيح، والقطاة: طائر معروف، وهو طائر صغير لا يذكر.
فانظر كيف أحب الله عمارة بيوته، فمن عمر هذه المساجد بنى الله له قصراً في الجنة، فنحن لا نقلل من بناء المساجد، ولكن نقول: بشرط ألا يكون على حساب حقوق الناس أو على حساب الأصول الشرعية المراعاة في الأوقاف، خاصةً إذا كان إمام المسجد يسحب المكيف من المسجد لأجل أن يجعله له، هذا لا يمكن، لأن النفع للجماعة ليس كالنفع للفرد، وهذه الأمور كلها ينبغي أن يجتنبها الإنسان تحصيلاً للأصول العامة المعتبرة في الأوقاف، والله تعالى أعلم.