قال رحمه الله: [بما يصلح لمثلها].
أي: تكون النفقة من القوت والكسوة بما يصلح لمثلها، فيكون الطعام صالحاً لمثلها، فلو كانت مريضة فلها طعام المريضة، ولو كانت صحيحة فلها طعام الصحيحة، لكن إذا كانت مريضة سيأتي أن الدواء لا يجب على الزوج؛ وسنبين -إن شاء الله- هذه المسألة.
على كل حال: النفقة بالطعام والكسوة ينظر فيها إلى ما يصلح لمثل المرأة، واختلف العلماء رحمهم الله: هل العبرة -كما ذكرنا- بحال الرجل أو بحال المرأة أو بحالهما معاً؟ ثلاثة أقوال لأهل العلم رحمةُ الله عليهم: من أهل العلم من قال: العبرة بحال المرأة، سواءٌ كانت غنية أو فقيرة، فالزوج يجب عليه أن ينفق على زوجته بحسبها، إن كانت زوجته فقيرة، فحينئذٍ ينفق عليها نفقة الفقيرة ولو كان غنياً، ولو كانت زوجته غنية فإنه ينفق عليها نفقة الغنى ولو كان فقيراً، وهذا القول هو مذهب أبي حنيفة ومالك رحمةُ الله على الجميع، واستدلوا بحديث هند الذي تقدم معنا: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف)، وكذلك بقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233].
والقول الثاني يقول: العبرة بحال الرجل غنىً وفقراً؛ فإن كان فقيراً أنفق نفقة الفقراء وإن كان غنياً أنفق نفقة الأغنياء ولو كانت زوجته فقيرة، فالعبرة بحاله هوَ، ينفق على حسب حاله، وهذا القول هو مذهب الشافعية رحمة الله عليهم، واستدلوا بقوله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7].
ووجه الدلالة: أن الله تعالى أمر الزوج أن ينفق على قدر حاله، فقال: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ}، بمعنى: أنه ينفق على قدر ما وسع الله عليه إذا كان غنياً، ثم قال في ضده: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ} وهو الفقير؛ لأن التقدير في لغة العرب: التضييق، ومنه قوله تعالى: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ:11] يعني: ضيق حِلق الدروع حتى لا يؤثر السلاح، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام (فاقدرا له) فالقدر أصل التضييق، وهنا لما قال: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} أي: كان فقيراً، {فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق:7]، فدلّ على أنه إذا كان ذا سعة وثراء فإنه ينفق من السعة، وإذا كان فقيراً فإنه ينفق على حسب فقره.
فهذا نصٌ واضح في الدلالة على أن العبرة بالرجل وليس العبرة بالمرأة.
أما القول الثالث فقالوا: ينفق بحالٍ مشترك بينه وبينها، فإن كانا غنيين فلا إشكال، وإن كانا فقيرين فلا إشكال، وإن كان غنياً وهي فقيرة أو العكس، نظر إلى الوسط بينهما، فإن كان غنياً نفقة مثله ثلاثة آلاف وهي فقيرة نفقة مثلها ألف، أعطى ألفين وهي وسطٌ بين الثلاثة وبين الألف، فيعطي النفقة الوسطى بين الغنى وبين الفقر إذا كان أحدهما غنياً والثاني فقيراً، وهو مذهب الحنابلة ودرج عليه أئمة المذهب رحمةُ الله عليهم؛ قالوا: نجمع بين الدليلين، نجمع بين حديث هند وبين الأدلة التي دلّت على أن العبرة بحال الرجل، كقوله عليه الصلاة والسلام: (أن تطعمها مما تطعم، وأن تكسوها إذا اكتسيت)، فهذا يدل على أن العبرة بالرجل.
فقالوا: نجمع بين ما دلّ على أن العبرة بحال الرجل وبين الدليل الذي دلّ على أن العبرة بحال المرأة ونقول ينفق الوسط بينهما.
والذي يترجح -والعلم عند الله- القول القائل: إن العبرة بحال الرجل، فالآية نصٌ واضح في أن العبرة بحال الرجل في الغنى والفقر، ولذا قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، فالمكلف بالنفقة هو الرجل، وبينت الآية الكريمة أنه ينفق في حال الغنى وفي حال الفقر بحسبه دون التفات إلى المرأة.
أما ما استدل به من حديث هند: فأولاً: حديث هند تقدم أن قوله عليه الصلاة والسلام: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف)، فقدر هذا بالمعروف أي: بما تُعورف عليه من نفقة زوجك عليك.
ثانياً: أن الحديث قالت فيه هند: (إن أبا سفيان رجل شحيحٌ مسيك ولا يعطيني نفقتي)، أي: لا يعطيني ما ينبغي أن يعطيه مثله، ولذا قالت: (شحيحٌ مسّيك) فرجعت إلى الرجل، فدل على أن المظلمة قائمة على أنه لم ينفق عليها النفقة التي ينبغي أن ينفقها مثله.
ودليل القول بأن العبرة بحال المرأة محتمل والاحتمال فيه قوي، والقاعدة: أن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال، ويشترط في ردّ الدليل بالاحتمال أن يكون الاحتمال قوياً، وهنا سياق الحديث يدل على أنه قصر في نفقتها؛ ولذلك ما قال: خذي على حسب حالك، بل قال: بالمعروف، فردها إلى ما تعورف إليه من حال الرجل، وهي قالت في أصل
Q ( إن أبا سفيان رجل شحيح مسيك) أي: إن أبا سفيان رجلٌ شحيح مسيك ولا يعطيني نفقتي أو لا يعطيني مما ماله: أي لا يعطيني عطية مثله، ولذلك قدمت قولها: شحيحٌ مسّيك، أي كان ينبغي أن ينظر إلى غناه فيعطيني نفقة مثله، من الأغنياء.
على كل حال: الآية قوية الدلالة في كون الرجل ينفق على حسب حاله، ونص الله فيها بقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، وهذا نصٌ قوي على أنه لا يمكن أن يكلف الرجل على حسب المرأة؛ لأننا لو قلنا: إن العبرة بحال المرأة، وكان الرجل فقيراً فقد كلفناه غير ما آتاه الله، وهذا واضح جداً في أن التعارض سيكون قوياً جداً ومصادماً للآية تماماً؛ ومصادمة الآية ليست كمصادمة الحديث؛ لأن دلالة الحديث محتملة.
وكان بعض مشايخنا يقول: إن حديث هند لا يصلح للاستدلال من كل وجه؛ لأنه متردد محتمل من حيث الأصل، فهي اشتكت أن أبا سفيان شحيح مسيك، فرد النبي صلى الله عليه وسلم إلى العرف، ولم يحدث للحديث تمييز واضح، فليس كالآية التي ميزت ووضحت أن الغني ينفق بغناه، وأن الفقير ينفق بفقره، فليس هناك تعارض؛ لأن القاعدة: أنه لا يحكم بتعارض النصين إلا إذا استويا في قوة الدلالة.
وأما مذهب الحنابلة الذي يقول: نجمع بين الدليلين، فالقاعدة: أنه لا يحكم بالجمع ولا يصار إلى مذهب الجمع إلا إذا ثبت التعارض، ونحن عندنا دليلان، أحدهما: قوي الدلالة كالشمس في أن العبرة بحال الرجل غنىً وفقراً، والآخر محتمل، فيقدم الصريح والقوي؛ لأن القاعدة: أنه إذا أمكن الترجيح يقدم على الجمع، ولا يصار إلى الجمع إلا إذا تعذر الترجيح، فإذا تعذر ترجيح أحدهما لقوة الآخر عليه دلالةً فلا يحكم بالتعارض الذي يبنى عليه الجمع، وبناءً على ذلك: القول الذي يقول: العبرة بحال الرجل، أقوى القولين دليلاً، ثم إننا لو نظرنا إلى الأصول الشرعية لوجدنا أن تكاليف الشريعة إذا كُلّف بها العبد نُظر إلى حاله، فهذا القول أقرب إلى الأصول، وهو أرجح إن شاء الله تعالى.