قال رحمه الله: [ولبن الميتة].
(ولبن الميتة) أي: المرأة إذا ماتت وشرب صبي لبنها هل يثبت التحريم؟ نحن قلنا: خمس رضعات تحرم، فلو ارتضع أربع رضعات، ثم جاءت سكتة قلبية للمرأة وماتت، وشرب الرضعة الخامسة بعد موتها -وقد تقع هذه في بعض الحوادث والأحوال- والارتضاع من الميتة وارد، وحتى في زماننا -في مثل حوادث الزلازل التي وقعت- وجد صبي رضيع قد عاش مع أمه ما لا يقل عن أسبوعين، وسخر الله له ثديها مع أنها ميتة.
فكان يعيش على لبن هذا الثدي، فالشاهد: إذا ماتت هذه المرضعة وبقي عدد من الرضعات ارتضع منها وهي ميتة فإن حكمها ثابت، خمس رضعات.
ولنفرض -مثلاً- أن صبياً احتاج إلى لبن -وما عندنا إلا امرأة ميتة ماتت الآن- فأراد أن يرتضع منها، وأرضعناه منها خمس رضعات، يأخذ الثدي اختياراً ويتركه اختياراً خمس مرات.
فهل لبن الميتة يحرم؟! هناك وجهان للعلماء رحمهم الله، قال بعض أهل العلم -وهم الجمهور-: لبن الميتة مُحَرِّم.
وهو الصحيح، وذلك لقول الله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء:23]، أي: وقع الإرضاع منهن، وهذا لا شك أنه قد ارتضع لبنها، كذلك اعترض بعض العلماء -رحمهم الله- على الذين قالوا: إن الميتة لا يحرم لبنها باعتراض -وهو من أوجه الاعتراضات وأجملها- فقالوا: أرأيتم لو أن هذه الميتة حلبت لبنها في إناء، ثم ماتت فشربه الصبي، هل يثبت التحريم؟!! قالوا: نعم.
قال: إذاً: لا فرق بين كونه يشربه وهو داخل الثدي، أو يشربه وهو خارج الثدي.
وفي الحقيقة: أن الخوف عندهم أن يكون اللبن قد استنفد واستهلك، وهذا طبعاً وبلا إشكال أنه إذا تبين أن اللبن مستنفد وفاسد فقد يضر -بل قد يقتل- الصبي.
لكن نحن نتكلم عن لبن صحيح، أي: شرب لبناً صحيحاً، أما كيف يعرف أنه صحيح فمعروف بالفطرة أن الصبي إذا عاف اللبن تركه؛ لأنه في بعض الأحيان يكره على رضاع اللبن الطبيعي بقوة، فضلاً عن أن يكون فيه زنخ أو يكون مستنفداً مستهلكاً، إذ ليس من السهولة بمكان أن يقدم الطفل على الرضاع من ثدي خالٍ من اللبن أو متغير اللبن؛ لأن الله يقول: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50]، هدى: دلَّ، فالنحلة -وبقية الحيوانات- هداها الله عز وجل كيف تحصل أقواتها، وحتى الكلب المسعور -أعاذنا الله وإياكم- يسعر، ثم فجأة ينطلق إلى الحديقة التي فيها مئات الأنواع من الأزهار ومن الأعشاب، ويأتي إلى عشب مخصوص أو إلى وردة معينة فيشمها وينتهي ما به!! من دله وهداه؟! دله اللطيف الخبير وهداه {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50].
فالطفل من حيث هو فيه هداية فطرية، ولا يمكن أن يمتص لبناً فاسداً، والغالب أنه لا يرتضع إلا لبناً صالحاً، فإذا رأيناه يرتضع ثم يترك الثدي، ثم يرتضع، ثم يرجع إليه خمس مرات أمامنا، علمنا ظاهراً أن اللبن صالح، وحكمنا بهذا الظاهر، وهذه من المسائل التي يحكم فيها على الظاهر؛ لأن دلالة الحال تدل على أن اللبن في ظاهره صالح، وبناء على ذلك: يثبت التحريم.