(والمستحاضة الناسية) تقدم معنا من هي المستحاضة، وبينا أنها المرأة التي يجري معها دم الحيض، وإذا جرى دم الحيض فله صور، وبينا أنه تارة يكون لها عادة، وتارة يكون لها تمييز، وفصلنا في أحكام هذا في كتاب الحيض.
والمسألة عندنا: امرأة مستحاضة كانت لها عادة ثم نسيتها، فلما نسيت عادتها أصبح حيضها مجهولاً، فقالوا: تعتد ثلاثة أشهر، حتى في مذهب الحنابلة فإنهم يردونه إلى الأصل في كتاب العبادات.
كيف تعتد ثلاثة الأشهر؟ قالوا: تحمل على حديث حمنة بنت جحش رضي الله عنها وأرضاها، وهو حديث حسنه غير واحد من أهل العلم رحمهم الله، ومنهم الإمام البخاري وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال لها: (.
أنعت لك الكرسف -قالت: يا رسول الله! هو أشد من ذلك، قال لها: استذفري، ثم قال لها: تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً، ثم صلي ثلاثاً وعشرين أو أربعاً وعشرين) فقوله: (تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً) ردها إلى الغالب من حيض النساء، فتتحيض ستة أيام أو سبعة أيام على حسب قوة الدم وضعفه، والتي تتحيض ستة أيام أو سبعة أيام وقد نسيت عادتها تنقسم إلى قسمين: أن تعلم مكان العادة -لأنها قد تنسى عدد العادة ولا تنسى مكانها- في أول كل شهر أو في آخر كل شهر، أو في منتصف كل شهر، فإن كانت عادتها تأتيها في أول كل شهرٍ فحينئذٍ نقول لها: تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً من بداية كل شهر، وإن كانت عادتها تأتيها في آخر الشهر يقال لها: تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً من آخر الشهر، لأنها تعلم مكان الحيض.
كيف نحكم بانتهاء العدة؟ الثلاثة الأشهر هنا فيها وجهان: الأول: من أهل العلم من يقول: ثلاثة أشهر كاملة كأن الحيض سقط اعتباره ورجع إلى التي لم تحض، وقال: لأنها لما كانت ذات حيض ولا تعرف عادتها، ولا يمكن تمييز عادتها أصبح وجود الحيض وعدمه على حدٍ سواء، فيرد إلى ثلاثة أشهر كاملة، وبناءً على هذا القول: لو طلقت في آخر ذي الحجة فإنها تعتد محرم وصفر وربيع الأول، وتخرج في آخر ربيع الأول من عدتها، وتحل للأزواج بنهاية شهر ربيع الأول.
الثاني: من أهل العلم من يقول: تعتد ثلاثة أشهر، على تفصيل حديث حمنة رضي الله عنها وأرضاها، وفي هذا الحديث قلنا: إذا كانت تعلم وقت عادتها في بداية الشهر أو آخره أو وسطه، فيفصل في هذا القول على التفصيل الذي تقدم معنا في الحيض والطهر.
هل عدة المرأة بالحيضات أو بالأطهار؟ أولاً: إن قلت: إن عدة المرأة بالحيضات -كما اختاره المصنف- وهو مذهب الحنابلة والحنفية رحمهم الله: يقولون: تعتد ستاً أو سبعاً من بداية محرم، ثم ستاً أو سبعاً من بداية صفر، ثم ستاً أو سبعاً من بداية ربيع، فإذا انتهت من اليوم السابع أو السادس -على التفصيل- خرجت من عدتها؛ لأنها حاضت ثلاث حيضات، وهذا حيض تقديريٌ بنص الشرع يعني: الشرع اعتبرها في هذا النوع من النساء، وكما أن العبادة ترتبت على هذا الحيض التقديري فالمعاملة مرتبة عليه.
ثانياً: إن قلت إن العدة بالأطهار، فتقول: تتحيض ستاً أو سبعاً من بداية محرم ثم صفر ثم ربيع وتنتهي بالطهر الثالث، وبناء على هذا تختلف: العدة على الوجهين في القول الثاني.
فالقول الأول: يتم العدد.
يعني: لا بد من مضي الثلاثة الأشهر.
والقول الثاني: لا يرى مضي الثلاثة الأشهر، والإشكال حينما يقع الطلاق، فلو وقع الطلاق أثناء الشهر، فلو كانت في بداية الشهر كما لو طلقت في آخر ذي الحجة فلا إشكال أنها تبتدئ من محرم، وتعتد ثلاثة أشهر -كاملة أو ناقصة- قمرية؛ لأن أحكام الشريعة الإسلامية مرتبة على الأشهر القمرية لا الأشهر الشمسية، والأشهر الشمسية ليس لها في أحكام العبادات والمعاملات تأثير، إنما التأثير في الأشهر القمرية التي نص الله عز وجل على اعتبارها: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة:189] وبين تعالى بهذه الآية أن الأصل: الاعتبار بالأشهر القمرية، وهذا محل إجماع عند العلماء رحمهم الله.
فلو أنها طلقت في آخر الشهر وابتدأت الثلاثة الأشهر من أول الشهر فتعتد الثلاثة الأشهر كاملة أو ناقصة، وحينئذٍ تارة يكمل الشهر الأول والثاني وينقص الثالث، وتارة ينقص الأول والثاني ويكمل الثالث، وتارة ينقص الأول والأخير ويكمل الوسط، وتارة العكس، فالعبرة في هذا كله بنقص الشهر وكماله فتارة تكون عدتها (89) يوماً وتارة (88) يوماً على حسب كمال الشهر ونقصه.
لكن لو أنها طلقت في منتصف شهر محرم، أو طلقت في (10) من شهر رمضان، أي: طلقت أثناء الشهر، فللعلماء في هذه المسألة خلاف، والذي عليها جمهور العلماء رحمهم الله أنهم يقولون الآتي: عدة الوفاة والطلاق تحتسب بالأشهر، فما زاد عن الشهر يعتبر مضموماً إلى آخر شهر، فإذا طلقت في اليوم العاشر من رمضان فحينئذٍ تتبع عدتها من اليوم الحادي عشر إلى نهاية رمضان، ثم نحتسب شوال ناقصاً أو كاملاً، ونحتسب ذا القعدة ناقصاً أو كاملاً، فإن نقص في الأهلة فهي شهر، وإن كمل فهو شهر، ثم يبقى السؤال في شهر ذي الحجة: ما الذي يضاف إلى الأيام التي مضت؟ فبعض العلماء يقول: يضاف من ذي الحجة عشرة أيام؛ لأن الأيام التي خلت من أول رمضان عشرة أيام، فبناءً على ذلك قالوا: لا بد وأن تحتسب المدة كاملة بناء على الشهر ويقدر الثاني والثالث -أي الشهرين الذين في الوسط- كاملين ويبقى الشهر الأول والرابع على حسب النقص الموجود في الأول ويكمل من الشهر الرابع.
وبناء على هذا القول: لو كان شهر رمضان ناقصاً فعندهم تعتد إلى عشر من ذي الحجة سواءً كان ناقصاً أو كاملاً، قال بعض العلماء: العبرة بالعدد، فما خرج عن الشهرين يرجع فيه إلى الأصل، وبناءً على ذلك: لو نقص فإنه لا بد وأن يحتسب ثلاثين يوماً، فتخرج في اليوم الحادي عشر من ذي الحجة، ومن حيث الأصل فالشهران اللذان هما في الوسط يكون الاحتساب بهما بالنقص والكمال، فلو كانا ناقصين فالعدة تامة كاملة، ولا يلتفت إلى الحساب بالتقدير من جهة أن يكون الشهران ستين يوماً، بل لو نقص الأول والثاني الذي هو شهر شوال وذو القعدة، وكان رمضان كاملاً فإنه يحتسب ويعمل به ولا يؤثر، قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (شهرا عيدٍ لا ينقصان: رمضان وذو الحجة)، وقال كما في الصحيحين: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا قال الراوي: هكذا: فعد ثلاثين، ثم خنس الإبهام في العدد الثاني) يعني: يكون ثلاثين ويكون تسعاً وعشرين، وهذا من سماحة الشريعة أنها اعتبرت الرؤية، فإن رؤي الهلال فبها ونعمت، وإن لم ير أكملت العدة ولا عبرة بالحساب الفلكي وبينا هذا غير مرة، وبينا أن وصف الأمية لهذه الأمة وصف شرف وليس بوصف منقصة؛ لأن الله وصفهم بهذا، وقلنا بأن الأمية لا تستلزم الجهل، فالذي يقول: إن الأمي جاهل يخلط بين الأمرين، لأن الأمي هو الذي لا يقرأ ولا يكتب؛ أي: أنه باقٍ على حالته كيوم ولدته أمه، وقد يكون الشخص لا يقرأ ولا يكتب وهو أعلم الناس؛ فالأعمى لا يقرأ ولا يكتب، وقد يكون عنده علم، فالقراءة والكتابة ليست هي العلم، إنما العلم بالتحصيل والوعي، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (رب مبلغٍ أوعى من سامع).