لكن تستثنى من هذا مسائل: منها: إذا كان بقاء الجنين يغلب على ظن الطبيب أنه سيفضي إلى هلاك المرأة وموتها، وهذا يسمى عند الأطباء بالحمل المنتبذ أو الحمل القنوي أو الحمل المهاجر، وحقيقته: أن الجنين يتخلق في غير موضعه الطبيعي، ثم ينتفخ ويفجر القناة ثم ينفجر في بطن المرأة فيقتل المرأة ويموت هو بنفسه، فحينئذٍ يجوز الإسقاط، ويجوز التدخل الجراحي لإخراج هذا الجنين إن تعذر إسقاطه؛ وذلك لإنقاذ نفس محرمة، وليس من باب إسقاط الأجنة، وإنما هو تلافٍ لضرر، فالحياة المتيقنة مقدمة على الحياة المظنونة، فنحن لا يمكننا أن نعرض حياة الأم اليقينية للخطر والضرر بسبب حياة قد تبقى وقد لا تبقى؛ لأن بعض الأطباء يقول: حياة الجنين نفسها مستبعدة؛ لأنه إذا تم الاكتمال في هذا الموضع سيفجر القناة، فيموت الجنين في بطن الأم، وتموت الأم تبعاً لذلك.
إذاً: حتى حياة الجنين غير مستقرة، وبناء على ذلك: يجوز إسقاط الجنين في مثل هذه الحالة وأشباهها مما تتعرض فيه الأم للهلاك والضرر، وهذا من باب درء المفسدة العظمى بالمفسدة الصغرى؛ لأن نصوص الكتاب والسنة دالة على هذه القاعدة التي هي: (إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما) ومن الأدلة على ذلك: أن الخضر عليه السلام كسر لوحاً من السفينة لأجل إنقاذ السفينة كاملة، وهذا يدل على أنه يجوز إتلاف الأقل لما هو أعظم منه، والجنين هنا ليس في مقام الأم، وكذلك حياته ليست غالبة ولا متيقنة، فتقدم الحياة المتيقنة وهي حياة الأم على الحياة الموهومة، وهذا هو الذي يفتى فيه بجواز الإسقاط.
أما بالنسبة لتساهل المرأة في هذا الأمر، وتقول: أتعبتني تربية الأولاد، وأريد ما بين الأولاد تفاوتاً؛ فهذه كلها شهوات ونزوات، ورغبات النساء ليست موجبة للعدوان على هذه الحدود الشرعية من العبث بخلقة الله عز وجل، وتعريض الأنفس للضرر، وإزهاق الأرواح، خاصة إذا كان بعد نفخ الروح، فإن الله عز وجل شرع في سنة النبي صلى الله عليه وسلم ضمان الأجنة كما جاء في قصة المرأتين لما اقتتلتا، فرمت إحداهما الأخرى فألقت جنينها، فقتلتها وألقت ما في بطنها، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بضمان الجنين، وهذا يدل على أنه له حرمة.
فعلى كل حال: على النساء أن يتقين الله عز وجل، ويشرع للزوج أن يمنع زوجته؛ لأن الولد ولده، إلا إذا قرر الأطباء أن المرأة تتعرض للخطر والضرر كما ذكرنا فهذا يستثنى، ولا يجوز للطبيب أن يعين على مثل هذه الأعمال لما فيها من الاعتداء على حرمات الله عز وجل، والإقدام على إتلاف الأجساد والعبث فيها دون مسوغ شرعي.
قوله رحمه الله: (بدواء مباح).
يعني: عند من يقول بجواز الإسقاط قبل الأربعين وقبل بداية التخلق، يقولون: في هذه الحالة يشترط أن يكون الدواء مباحاً، وسيأتينا -إن شاء الله- أن الحنابلة وطائفة من أهل العلم لا يجيزون التداوي بالمحرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها) فهذا الحديث يدل على أنه لا يجوز التداوي بالمحرمات، وبناء على ذلك: يشترطون أن يكون الدواء مباحاً، وأن تكون الوسيلة وسيلة مشروعة، وليست بوسيلة ممنوعة.