بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب العِدد].
(العَد) في لغة العرب: الحساب والإحصاء، فإذا أحصى الشيء، قالوا: عدّه.
ولما كان هذا النوع مما أوجب الله عز وجل فيه الحساب والاعتداد سمي بهذا الاسم؛ لأن المرأة تعد أيام عدتها، وكذلك تحسب وتحصي أيام أقرائها، وهذا الباب المراد به في اصطلاح العلماء: تربص المرأة في أجل مخصوص لانقضاء آثار النكاح.
فالعدة تقوم على تربص المرأة الأجل المسمى الذي بينه الله عز وجل في كتابه، وثبتت به سنة النبي صلى الله عليه وسلم لانقضاء آثار النكاح.
وهذا الباب في الحقيقة مترتب على كتاب الطلاق؛ لأن الأصل في العدة أنها تترتب على الطلاق، إلا أنها قد تكون في الفُرقة من خلع أو فسخ، وكذلك تقع في الوطء إذا كان وطء شبهة، وتقع في الوطء الحرام على تفصيل سيأتي إن شاء الله تعالى، ونظراً لتعلقها بالأبواب المتقدمة من الطلاق والخلع واللعان، ناسب أن يذكرها المصنف -رحمه الله- بعد بيانه لتلك الأبواب.
والأصل في لزوم العدة ووجوبها: كتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإجماع العلماء، فإن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228]، فبيّن سبحانه وتعالى شرعية العدة، وأنها تكون للمطلقة ثلاثة قروء، وكذلك بيّن سبحانه العدة وشرعيتها بطريق المفهوم في الخطاب في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49]، فبيّن سبحانه وتعالى أنه إذا وقع الطلاق قبل الدخول فليس هناك عدة تحتسب، ومفهوم ذلك: أنه إذا وقع الطلاق بعد الدخول فإنه تجب العدة وتثبت.
وقال تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4]، فبيّن سبحانه وتعالى عدة الآيسة من المحيض، وهي: المرأة الكبيرة، وبيّن عدة الصغيرة التي لم تحض، وبين عدة الحامل، وهذا يدل على مشروعية العدة.
كذلك أيضاً ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعدة، حيث أمر بها فاطمة بنت قيس رضي الله عنها وأرضاها حينما طلقها زوجها، فقال لها: (اعتدي في بيت ابن أم مكتوم)، فهذا يدل على شرعية العدة.
وكذلك أيضاً ثبتت النصوص في الكتاب والسنة بعدة الوفاة، فأمر الله عز وجل المرأة التي توفي عنها زوجها بالعدة والحداد؛ فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:234]، فأمر الله بعدة الوفاة وهي الحداد، وكذلك أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الصحيح عن أم حبيبة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ على ميتٍ فوق ثلاث ليال، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً) كذلك -أيضاً- قال لـ فريعة بنت مالك بن سنان رضي الله عنها: (امكثي في بيت زوجك الذي جاءك فيه نعيه حتى يبلغ الكتاب أجله)، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة المتوفى عنها زوجها أن تبقى مدة الحداد وهي عدة الوفاة.
فمن مجموع هذه النصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أجمع العلماء سلفاً وخلفاً على مشروعية العدة، وهذه العدة تتنوع وتختلف لكن الأصل العام أنها مشروعة.