نصيحة لمن مل وضعفت همته في الدعوة إلى الله

Q كثيراً ما يجد طالب العلم المشاق في تعامله مع العوام وتبليغ العلم وبيان الأحكام إلى درجة أن يملّ فيها وتضعف همته، فما توجيهكم؟

صلى الله عليه وسلم هذا طريق الأنبياء والصالحين، وطريق خيرة خلق الله وصفوة الله من العباد أجمعين، ولابد من الابتلاء والامتحان في الدعوة إلى الله وتبليغ رسالة الله عز وجل، أي طريقٍ هذا الطريق الذي ينتهي بصاحبه إلى الجنة؟ أي طريق هذا الطريق الذي وضعت الملائكة أجنحتها لصاحبه رضاً بما يصنع؟ أي طريقٍ هذا الطريق الذي ينعم فيه العبد برحمات الله عز وجل؟ فكم من عبدٍ أصبح وهو داعية إلى الله فما أمسى إلا وقد غفرت ذنوبه! وكم من عبدٍ داعية إلى الله أصبح وأمسى يأمر بأمر الله وينهى عما نهى الله عنه فكتب الله له رضاه إلى يوم يلقاه! (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يلقي لها بالاً يكتب الله له بها رضاه إلى يوم يلقاه) لا يستحقر الإنسان الخير، فكم من كلمة يسيرة قربت صاحبها إلى الله جل وعلا، خاصة إذا كانت من ذكره، وكم من متكلم بين أناسٍ يجهلون السنن، فأحيا الله به السنة وأمات به البدعة، ودل به وهدى حتى ثقلت موازينه وارتفعت له الدرجات العلى لما كان من أمره بطاعة الله! ولذلك عظُم على عدو الله الشيطان ما يراه من أولياء الرحمن، فأخذ يخذلهم ويثبطهم ويسلط اليأس على قلوبهم، لكن ليصبروا؛ فإن الله مع الصابرين، وليرابطوا على صبرهم؛ فإن الله لا يضيع أجر المحسنين، خاصة في زمانٍ عظمت غربته، وجلت كربته، ولا معين ولا ظهير ولا ولي ولا نصير إلا الله وحده، وهو على كل شيء قدير.

فالواجب على المسلم ألا يمل لذلك، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (اكلفوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا) أخي في الله: توكل على الله، ومن يتوكل على الله فهو حسبه، وانظر إلى عظيم نعمة الله عليك حينما تمسي وتصبح وأنت تبلغ رسالة الله، وانظر نعمة الله عليك إذ اختارك واصطفاك لتأمر بأمره وتنهى عن نهيه، فتحبب إلى العوام، وتقرب منهم، ووطئ كنفك لهم، وكن ممن يؤلف ويألف، وكن من الذين سهلت أخلاقهم، وحسنت آدابهم، وجملت خلالهم، حتى تفوز بأحسن المنازل في دعوتك إلى الله.

وعلى كل حال اليأس والضعف لا يصلح لطالب العلم، طالب العلم الحق مجرد ما يضع قدمه في الدعوة إلى الله لا يفكر في السآمة والملل، بل يضع روحه في كفه، طالب العلم في جهاد أعظم من الجهاد في سبيل الله، ولذلك قال كثير من العلماء وهم أغلب طائفة السلف: إن العلم أفضل من الجهاد في سبيل الله عز وجل إذا أخلص فيه العبد لربه.

سئل الإمام أحمد رحمه الله: أي منزلة أعظم، منزلة العالم أو المجاهد؟ قال: العلم إن أخلص فيه لوجه الله.

ولذلك قال الله في كتابه: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69]، فابتدأ الله بالنبيين ثم ثنى بالصديقين وهم: العلماء العاملون الهداة المهتدون، فهذا السبيل الذي أنت فيه هو سبيل الأنبياء وطريق الأصفياء والأتقياء، ولكن الذين صبروا وصابروا ورابطوا وأفلحوا وأدلجوا حتى بلغوا المنزل، عرفوا أن سلعة الله غالية فقدموا لها أرواحهم رخيصة، يصبر الواحد وهو يعلم الناس فيتغرب عن أهله ووطنه ويسافر ويشعر مع هذا كله أنه مقصر.

طالب العلم الحق يتفانى في التضحية وهو يحس أنه لم يقدم شيئاً، وأن الذي قدمه شيئاً يسيراً، والعكس، فمتى أحس أنه قدم كثيراً، وأن الناس لا تتقبل منه، فيقول: ما لك وما للناس! لا، أنت تعامل رب الجن والناس، تعامل رباً لا يضيع مثقال خردلة من عمل صالح، تعامل رباً لا يصيبك هم ولا غم ولا كربٌ ولا نكبة إلا كتب الله أجرك، وأثبتها في ميزان حسناتك، حتى تلقاها في يوم لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون، إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.

ما الذي رفعت به الدرجات وكفرت به الخطايا والسيئات غير الصبر، وأنت تصبر من أجل أحب الأشياء، وهو الدعوة إلى الله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا} [فصلت:33]، هذه الآية كان الحسن البصري يقول فيها: هذا ولي الله، هذا حبيب الله، وهو الداعية إلى الله سبحانه وتعالى، فلا تقل: ما لي وما للناس، وإنما إذا دعوت وبلغت وبينت فاحمد الله جل وعلا أن الله جعل لسانك يأمر بما أمر الله به، وينهى عما نهى الله عنه، ولم يجعلك داعية إلى الهوى والردى، وإذا علمت الجاهل قلت: يا رب! لك الحمد والشكر أن رفعتني وكنت وضيعاً، وأعززتني وكنت ذليلاً، ورحمتني وكنت معذباً، وهديتني وكنت ضالاً، ولذلك خاطب نبيه وهو في أعلى مراتب الدعوة والتعليم {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:6 - 8]، ذكره بنعمة الله؛ لأن بهذا التذكير تقوى النفس لتعليم الناس، والصبر على أذاهم، ولذلك قال له بعدها سبحانه وتعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:9 - 11] فالذي يستشعر أن الله أعطاه نعمة عظيمة، وأن الله شرفه وكرمه بهذا العلم؛ فإنه يضحي ويجاهد ويجالد، والله عز وجل لن يضيع لك في هذا العلم ولا في غيره من الأعمال الصالحة مثقال خردل، وقد تسهر على حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تتبوأ به الدرجات العلى من الجنة، وقد تسهر على آية تحل حلالها وتحرم حرامها وتعرف شريعتها ونظامها؛ يكتب الله لك بها من الحسنات ما لم يخطر لك على بال، وتكون لك شفيعة بين يدي الله عز وجل، فهذه نعم ومنن تنالها برحمة الله.

ما الذي يدعوك للسآمة والملل؟ هل تعلمت العلم من أجل أن يمجدك الناس وأن يعظمك الناس؟ هل تنتظر من الناس أن يثنوا عليك وأن يزكوك وأن يمجدوك؟ هيهات هيهات: (فمن تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لينال به عرضاً من الدنيا لم يرح رائحة الجنة).

هل تعلمت العلم من أجل أن تنتظر من الناس مكافأة، وأن تأمر فيطاع أمرك، وأن تقول فيسمع قولك؟ هيهات هيهات، الإنسان وهو يطلب العلم يفكر في شيء واحد وهو رضوان الله جل وعلا، يفكر في مرضاة الله سبحانه وتعالى قائماً وقاعداً ساكتاً ومتكلماً، يفكر كيف يرضي الله سبحانه وتعالى، وإذا فكر كيف يرضي الله فتح الله له أبواب الرحمات، فأصبح إعراض الناس أفضل عنده وأكمل، لا يتألم بإعراضهم بل بالعكس يقول: الحمد لله أن الله عز وجل ما شغلني بهم، ولا علق قلبي بهم، فعلى كل حال عليك أن تنظر إلى ما بينك وبين الله، وإن أصلحت ما بينك وبين الله أصلح الله ما بينك وبين الناس.

ومما يوصى به طالب العلم حسن الظن بالله عز وجل، فإذا وجد الناس أعرضوا عنه أحسن الظن بالله، وقال: لعل الله لحكمة يريدني أن آوي إليه، يريدني أن أخلص له أكثر والعيب فيّ وأنا المقصر، ما يقول: العوام فيهم وفيهم، وإنما يتهم نفسه ويرجع إلى نفسه، ودائماً لا تسئ الظن بالله عز وجل خاصة في هذا العلم، فإن ربك فوق ما ترجو وتأمر كرماً وفضلاً وجوداً وإحساناً وبراً، لا تظن بربك إلا كل خير، سواء كنت طالب العلم أو غير ذلك، لا تظن بهذا الرب إلا كل خير، فالشيطان إذا أراد أن يضر بالداعية أو طالب العلم أدخل إلى قلبه سوء الظن بالله عز وجل، فإذا ساءت ظنونه زاغ قلبه، فمل وسئم وترك الدعوة إلى الله عز وجل، حتى إن أحدهم -والعياذ بالله- ربما يقول: أنا مالي وما للناس؟ وما الذي أدخلني في هذا الأمر؟ حتى يندم عما كان منه من الخير؛ فيحبط عمله فيكون من الخاسرين نسأل الله السلامة والعافية! يقول: يا ليتني ما أمرت، يا ليتني ما فعلت! فتذهب حسناته -والعياذ بالله- كلها؛ لأنه ندم على ما كان منه من الخير، وتبرأ من هذا الخير.

فعلى طالب العلم أن يجند نفسه بشيء واحد -هو سلوته وعماده وروحه ومنه تستمد القوة والعون من الله عز وجل- هو الإخلاص والتوحيد لله سبحانه وتعالى، ومن أراد وجه الله هانت عليه الدنيا وما فيها، ومن أراد وجه الله ثبت الله قلبه وسدد لسانه وشرح صدره، ولم يبال بالناس أقبلت أو أدبرت، والله إنه ليكمل إخلاص العبد مع الله عز وجل فيجلس مع العشرة آلاف وكأنه جالس لوحده.

ويكمل إخلاص العبد ويكمل يقينه بالله عز وجل ويقف بين الأمة من الناس فلا يبالي بها أقبلت أو أدبرت، كل الذي يفكر فيه فقط مرضاة الله سبحانه وتعالى، وكل الذي يفكر فيه أن هذا القول الذي يقوله وأن هذا النصح وهذا التوجيه يصعد إلى الله عز وجل ويقبله، لا يبالي أقبلت الدنيا أو أدبرت، المهم أن يرضى الله سبحانه وتعالى، وعندما تجد عنده لسان صدق فلا يزل صاحبه، ولا يزيغ قلبه، مما أورثه الله عز وجل من كمال التوحيد والإخلاص، وهذا هو حال الرسل والأنبياء ما كانوا يبالون بالناس أعرضوا أو أقبلوا، فلما أعرض الناس عنهم سلموا أمرهم لله، وتوكلوا على الله، وفوضوا الأمور إلى الله سبحانه وتعالى، ومن فوض أمره إلى الله تولى الله أمره، ولذلك قال مؤمن آل فرعون: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} [غافر:44 - 45].

فجعل الله الفرج بالتوحيد والإخلاص له عز وجل.

فطالب العلم والداعية والخطيب لا يسأم ولا يمل، وليعلم أن الكلمات التي ذكر بها من الأحاديث والآيات البينات أنها إن ضاعت عند الناس فلن تضيع عند رب الجنة والناس، وأنه قد خطها من فمه ومن لسانه، وعليه ملائك حافظون لا يغيرون ولا يبدلون، خطت في صحائف أعماله وأقواله حتى يراها أمام عينيه في يومٍ ينفع الصادقين صدقهم، فيجزى على الحسنات إحساناً، وعلى السيئات إما عقوبة أو صفحاً وغفراناً.

نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يتولانا برحمته، وأن يربط على قلوبنا في طاعته ومرضاته، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله

طور بواسطة نورين ميديا © 2015