قال المصنف رحمه الله: (أو قال: لم تزن ولكن ليس هذا الولد مني) القذف في اللعان يشتمل على صورتين: الصورة الأولى: أن يرميها بالزنا.
الصورة الثانية: أن ينفي الولد ولا يرميها بالزنا، يقول: هذا الولد ليس بولدي، فيقال له: تتهمها بالزنا؟ يقول: هذا الولد ليس بولدي، وقد تحمل المرأة وتكون معذورة شرعاً، مثل أن توطأ بشبهة، أو شاهدها وقد أكرهت فقال: هذا الولد ليس بولدي، فيقع اللعان على نفي الولد.
فتارة يقع اللعان على درأ حد القذف، وتارة يقع على نفي الولد.
دليل الصورة الأولى: حديث ابن عباس رضي الله عنهما -في الصحيحين- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ هلال بن أمية: (البينة أو حد في ظهرك)، فهو اتهم زوجته بالزنا، ودرأ عن نفسه الحد بهذا اللعان.
ودليل الصورة الثانية -وهي أن ينفي الولد-: ما جاء في قصة هلال، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (انظروا إليه فإن جاءت به خدلج الساقين، أكحل العينين، سابغ الأليتين، فهو للذي رميت به)، وجاءت به على هذه الصفة، وخدلج الساقين: أي: كثير لحم الساقين، وأكحل العينين: أي: أنه شديد سواد منابت الشعر في عينيه كأنها قد أكحلت، وسابغ الأليتين: أي كثير الشحم في الأليتين، فجاءت به على هذه الصفة، فهذا لعان على نفي الولد، فوقع لعان هذا الصحابي على الصورة التي يسميها العلماء: الصورة المركبة، وهي: أن يجمع بين نفي الولد وزناها، فيشهد في اللعان قائلاً: إن زوجتي فلانة زانية، وإن هذا الولد ليس بولدي، وإذا كانت حاملاً يقول: وهذا الحمل ليس مني.
وقد يكون اللعان بنفي الولد دون التهمة بالزنا، والمرأة قد تحمل بدون زنا، فربما لو دخلت مستحماً للرجال، فاستدخلت ماء الرجل في فرجها، فيقع الحمل دون وجود الزنا، وهذا قد يقع، وهذا الذي جعل التحليلات الطبية ليست بدليل شرعي كشهادة الأربعة العدول، ومن هنا تدرك عظمة هذه الشريعة، وبعض الناس قاصر فهمه يقول: الآن عندنا تحليلات طبية، التحليلات الطبية ليست بدليل شرعي، فربما أن المرأة تحمل باستدخال المني في الفرج بدون الوطء، وهذا معلوم وموجود.
فقد يقع الحمل في صور بدون وطء، لكن ليس هناك مثل أربعة عدول من المسلمين يشهدون أنهم رءوا الزنا، وأنهم رءوا الرجل يزني بالمرأة، وأن ذلك منها كالميل في المكحلة، فهذا من أثبت وأوضح ما يكون، أو تقر المرأة أو يقر الرجل على هذا الشيء، فهذه هي البينات الشرعية.
فالشاهد أنه حينما يقول: هذا الولد ليس بولدي، ولا يتهمها بالزنا، فهذا نوع من اللعان فينفي الولد، وهي تلاعن على أن الولد ولده.
قال رحمه الله: (أو قال: لم تزن ولكن ليس هذا الولد مني): ليس ولدي أو ليس مني، وهذه المسألة لها صور: إذا كان الزوج يشك في الولد وفي الحمل، ونفى الولد وقال: هذا الولد ليس بولدي، فحينئذ إما أن ينفيه حال حملها قبل الوضع، أو ينفيه بعد الوضع.
فإن نفاه حال حملها فللعلماء وجهان: من أهل العلم من قال: لا تصح الملاعنة حتى تضع، فلا يرون اللعان في حال حمل المرأة؛ لاحتمال أن يكون الانتفاخ الذي في بطن المرأة مرض وليس بحمل، فحينئذ لا لعان؛ لأن هناك شبهة، وهناك أمر غير بين، وهذا مذهب الحنفية والحنابلة رحمهم الله.
وقالت الشافعية والمالكية: يصح اللعان على نفي الحمل، وهذا ثابت في حديث هلال بن أمية، فإنه لما لاعن نفى النبي صلى الله عليه وسلم الولد منه، ولم يجعله له، فدل على أن اللعان وقع على الزنا وعلى نفي الولد.
والصحيح أنه يصح اللعان على نفي الحمل خلافاً لمن قال: لا لعان حتى تضع المرأة.
إذاً: إذا نفى الحمل قبل أن تضعه المرأة، فالصحيح أنه يقع اللعان، وأن المرأة تلاعن، والرجل يلاعن.
الصورة الثانية: أن يقع نفيه للولد وتهمته لزوجته وأن الولد ليس بولده بعد وضعها، فمن أهل العلم من قال: يشترط أن يكون بعد الوضع مباشرة فلا يتأخر؛ لأن سكوته بعد وضع الولد، وقبوله للتهنئة بالولد يعتبر رضاً منه بنسبته إليه، وإقرار منه أن الولد ولده، فيشترطون أن يكون نفيه مباشرة، وألا يكون هناك تأخر ولا تراخٍ.
فهناك ثلاث صور: الصورة الأولى: أن يقول: الولد ليس بولدي، وهي زانية، فجمع بين الأمرين بين نفي الولد وزناها.
الصورة الثانية: أن يقول: لم تزن، والولد ليس بولدي، فنفى الزنا لكن أثبت أن الولد ليس بولده.
الصورة الثالثة: أن يقول: الله أعلم زنت أو ما زنت، لا أدري، ولكن الولد ليس بولدي.
هذه ثلاث حالات: فإذا نفى الزنا وأثبت الولد -وهذا الذي يعنينا- قال فيه المصنف رحمه الله: (وشهدت امرأة ثقة أنه ولد على فراشه لحقه نسبه ولا لعان)؛ لأن الولد للفراش، والفراش هي الزوجة، وخذ هذه القاعدة: من عقد على امرأة عقداً شرعياً، ومضت مدة يمكن أن تحمل فيها أو تضع، فجميع ما تضعه المرأة -والعقد قائم- ينسب لهذا الرجل، سواء وضعته في حال حياته أو بعد موته بمدة الإمكان على تفصيل سيأتينا إن شاء الله في لحوق النسب، والدليل على هذا قوله عليه الصلاة والسلام: (الولد للفراش، وللعاهر الحجر)، فقوله عليه الصلاة والسلام (الولد للفراش) قاعدة في أننا ننسب الولد للفراش، فإن كانت منكوحة نسب إلى الناكح، وإن كانت غير منكوحة نسب إلى أمه؛ لأنه ولد زنا والعياذ بالله! وبناءً على ذلك: إذا قال: هذا الولد ليس بولدي، ففيه تفصيل: بعض العلماء يقول: إذا نفاه مباشرة بعد الوضع فإنه من حقه، وخاصة على مذهب من لا يرى اللعان حال الحمل، فإذا وضعت الولد وقال: هذا الولد ليس بولدي، أو شهد عدول على أنه نفاه مباشرة وأنه لم يقبل التهنئة به، ولم يثبت الدليل على رضاه؛ صح نفيه ولاعن.
لكن المصنف رحمه الله يقول: (إذا شهدت امرأة ثقة) وهذه المسألة تعرف عند العلماء بشهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال، وستأتينا إن شاء الله في باب البينات، ونبين أن الشريعة تقبل شهادة الرجال فقط كما في الحدود والدماء ولا تقبل شهادة النساء، ولذلك ما ذكر الله شهادة النساء في الدماء وفي الحدود، فمثلاً في الزنا، ما يشهد ثمان نسوة، ولذلك قال: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:4]، ولم يذكر البدل من النساء، وفي هذا حكمة عظيمة؛ لأن النساء تغلب عليهن الغيرة، ويغلب عليهن الاستعجال للضعف البشري الذي هو من طبيعة خلقهن، لو خلق الله بنيتي ضعيفة، ما آتي وأقول: لماذا خلقني الله ضعيفاً؟ هذه خلقة الله سبحانه وتعالى، وهذا الضعف الحاصل في المرأة كمال لها في مواطن، لكن خلقها سكناً للرجل وفيها هذا الضعف، ولذلك جبرت شهادتها بشهادة أختها، فقال: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة:282]، فجعل شهادتها في الأموال {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} [البقرة:282]، فبين الله علة جعل شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل، {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ} [البقرة:282]، وفي قراءة ((فَتُذْكِرَ)) يعني: تجعلها كالذكر، (فَتُذْكِرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة:282]، فتنقل شهادتها من النقص إلى الكمال، فالأمور التي تقبل فيها شهادة النساء هي الأموال وما يئول إلى الأموال إعمالاً للنص، وهذا هو الأصل الذي ورد في كتاب الله عز وجل، والمرأة لا تساوي الرجل في هذا، يرضى من يرضى، ويغضب من يغضب، هذا شرع الله عز وجل، وهذا كتاب الله، وهذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد بينا غير مرة أن الله سبحانه وتعالى فضّل الرجل على المرأة بنصوص الكتاب والسنة التي لا تقبل جدالاً ولا مراءً، كقوله: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر:6]، فأول ما خلق الله بيده آدم، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له الملائكة، ولم تكن حواء مخلوقة مستقلة، وإنما خلقها من آدم، تشريفاً للذكر وتكريماً له، والله يفضل من شاء كيف شاء ومتى شاء وبما شاء، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء:23]، فذلك فضل الله عز وجل يؤتيه من يشاء، فهذا التفضيل حتى في الخلقة والإدراك والتركيز والشعور، فالمرأة من حيث هي لا تقبل شهادتها في الدماء، ولذلك انظر إلى المرأة إذا وقع أمامها أي جرح تغمض عينيها فهي لا تتحمل، والشهادات تحتاج إلى تحمل، وتحتاج إلى قوة، خاصة الأمور التي فيها قتل، وفيها جرائم، وفيها اعتداء، فمن هنا: نقول إن شهادة النساء تقبل في الأموال، وفيما لا يطّلع عليه إلا النساء -وهذا محل الشاهد معنا هنا- كمسألة كون المرأة بكراً أو ثيباً، كما تقدم معنا في مسائل النكاح، وكمسألة الوضع في الفراش؛ لأن المرأة تلد غالباً عند النساء، فالنسوة هن اللاتي يقمن بتوليد النساء في الأصل، وهذا الذي أثبتته قواعد الشريعة؛ لأن الجنس مع الجنس أبعد عن الفتنة، وأبعد عن الحرام والوقوع في المحظور، فإذا ثبت هذا، فمن حيث الأصل أن المرأة تقبل شهادتها في الأموال، وما يئول إلى الأموال، وفيما لا يطلع عليه إلا النساء، مثل مسألة الولادة، ومسألة الرضاعة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قبل فيه شهادة الواحدة، حينما قال عليه الصلاة والسلام: (كيف وقد قيل؟) وسيأتينا إن شاء الله في باب الرضاع، فلما قبل امرأة واحدة في إثبات الرضاع وهو مما لا يطلع عليه إلا النساء دل على قبول شهادتهن في نوع خاص، وهذا فيه تفصيل عند العلماء وضوابط وقيود؛ لأن الأصل يقتضي ألا تقبل الشهادة إلا بالعدد، فإذا شهدت المرأة الثقة أن امرأة ولدت هذا الولد على فراشه، وما زال النكاح قائماً، وما زالت الزوجية قائمة على صفة يلتحق به الولد، فحينئذ الولد ولده ولا لعان على ما اختاره المصنف رحمه الله، ونحن قد بينا أن العمل على التفصيل، فإن كان هناك مبادرة بالإنكار حال حمله أو بمجرد وضعه، فله الحق أن يلاعن وأن ينفي هذا الولد عنه.