قال رحمه الله: [ولا يُجزي في الكفارات كلها إلا رقبة مؤمنة].
من أعتق الرقبة فإنه يُشترط لصحة العتق في إجزاء الكفارات الواجبة أن تكون مؤمنة، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92]، فاشترط الله عز وجل في تحرير الرقبة الإيمان، والقاعدة: (المطلق محمول على المقيد)، وكتاب الله يفسر بعضه بعضاً، ومن هنا قال جمهور العلماء رحمهم الله من المالكية والشافعية والحنفية والحنابلة: يجب في الرقبة التي تعتق في الظهار أن تكون مؤمنة، والإطلاق في آية المجادلة مقيد بما ورد في آية النساء من اشتراط الإيمان في الرقبة.
فهذا دليلهم من الكتاب.
أما دليلهم من السنة على اشتراط كونها مؤمنة فحديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه وأرضاه، عند أبي داود والترمذي -وهو حديث صحيح-: أنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إني صككت جارية صكةً ندمت عليها، وأحب أن أعتقها -يعني أنه ضربها ولطمها على وجهها، فندم على ذلك، فأحب أن يعتقها-.
فقال عليه الصلاة والسلام: ائتني بها، فلما جيء بالجارية قال لها: أين الله؟ قالت: في السماء.
قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله.
قال: أعتقها؛ فإنها مؤمنة)، ووجه الدلالة من هذا الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعتقها؛ فإنها مؤمنة)، فجملة: (فإنها مؤمنة) جملة تعليلية، ويستخدمها عليه الصلاة والسلام كثيراً، كقوله صلى الله عليه وسلم: (اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تخمروا رأسه، ولا تمسوه بطيب؛ فإنه يبعث يوم القيامة من الملبين) أي: أمرتكم بهذا الأمر؛ لأنه يبعث يوم القيامة ملبياً، أي: السبب في منعكم من هذا أنه في حكم المحرم؛ لأنه يبعث يوم القيامة ملبياً، وكقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه ثلاثاً قبل أن يدخلهما في الإناء؛ فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده)، أي: ما أمرتكم بغسلها ثلاثاً إلا لمكان احتمال النجاسة؛ لقوله: (فإن أحدكم لا يدري أن باتت يده).
فهذه جملة تُنبه على العلة في أمره بالعتق (أعتقها؛ فإنها مؤمنة) أي: ما أمرتك بعتقها إلا لأنها مؤمنة، فكان مفهوم ذلك أنها لو لم تكن مؤمنة لما أمرتك بعتقها.
ويستنبط من هذا أن الكافر لا يعتق، وهذا صحيح؛ لأن الكافر ضرب الرق عليه؛ لأنه لما كفر بالله وحارب دين الله عز وجل، جعله الله في مقام البهيمة بل أضل كما قال تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان:44]، ففضل الله الآدمي على الحيوان بالعقل، فإذا كفر نعمة الله عز وجل عليه بالعقل، وكفر بالله عز وجل نزل عن الآدمية إلى البهيمة، فيباع ويشترى؛ لأنه كافر.
ولذلك لا يختص الرق بطائفة، ولا يختص بلون، ولا يختص بجنس، وإنما هو في كل من كفر بالله عز وجل وألحد كائناً من كان؛ لأن الحكم فيه عام، والعلة فيه مبنية على الكفر، وإلا فكيف تقاتل الشريعة من كفر بالله عز وجل وتضرب عليه الرق، ثم بعد ذلك بكل سهولة يعتق، ويصير حراً كافراً دون أن يُسلم، فهذا لا يتفق مع الشرع أبداً، ولذلك لما أراد معاوية أن يعتقها قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ائتني بها)، فلما جيء بها اختبرها النبي صلى الله عليه وسلم، وامتحنها هل هي مؤمنة أو غير مؤمنة، وهذا يدل على أنه لا يمكن أن الشرع يقول: اضربوا الرق عليه بالكفر، ثم يقول: أعتقوهم وهم كفار، فهذا أشبه بفوات المقاصد التي من أجلها ضرب الرق.
ولذلك قالوا: من الناس من يسلم بالسنان، ومنهم من يسلم بالحجة والبرهان، ومنهم من يسلم بالنعمة والإحسان، فالكافر حينما يجابه المسلمين ويرى قوة الإسلام قد لا يكفيه ذلك لسلم، فإذا عاش بين المسلمين ورأى أخلاقهم، ورأى فضل الإحسان، ورأى الأدب دعاه ذلك إلى الإسلام، ولذلك ضُرب عليه الرق حتى يكون وسيلة لإسلامه وإيمانه، وهذا كله تنزيل من حكيم حميد، فما من أمر شرعه الله إلا وتجد وراءه من الحكم الشيء الكثير.
فإذا كان الكافر يُعتق على كفره فات المقصود من ضرب الرق عليه، لذلك فإن مذهب جمهور العلماء -وهو أصح القولين في هذه المسألة- أن الكافر لا يُعتق، وأنه لا تجزئ الرقبة الكافرة في الكفارات عموماً، فلا يجزئ في كفارة اليمين إلا مؤمنة، فلو أعتق عبده الكافر فإنه لا يُجزيه عن كفارة يمينه، ولا يجزئ في كفارة الظهار، ولا كفارة الجماع في نهار رمضان، ولا كفارة القتل إلا أن تكون مؤمنة، وهذا هو أصح قولي العلماء رحمهم الله.
فإذا كان الرقيق مؤمناً، فلا إشكال، سواءٌ أكان ذكراً أم أنثى، لكن الإشكال لو أنه أراد أن يُعتق في كفارة قتل صبياً صغيراً، وهذا يقع، فيأتي شخص يريد أن يُعتق في كفارة قتل فلا يجد إلا طفلاً، فهل يجزيه ذلك؟
و صلى الله عليه وسلم ينظر في والد الطفل، فقيل: إنه يتبع خير الوالدين ديناً، فإن كان أحدهما مسلماً أبوه أو أمه لحقه، وحُكم بأنه مسلم.
وهذا مبني على القاعدة التي ذكرها العلماء، وأشار إليها الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في كتابه قواعد الأحكام، تقول القاعدة: (التقدير تنزيل المعدوم بمنزلة الموجود، والموجود بمنزلة المعدوم)، فالتقدير في الشريعة أما أن تنزل المعدوم بمنزلة الموجود أو تنزل الموجود بمنزلة المعدوم.
فالصبي لم يشهد ألا إله إلا الله، ولم يشهد أن محمداً رسول الله، ولكن يعامل معاملة أحسن والديه ديناً من باب التقدير، فيقدر فيه الإسلام، كأطفال المسلمين قدر فيهم الإسلام مع أنهم لم يسلموا، والدليل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه)، فمن دقة العلماء جعلوا الأولاد تبعاً للوالدين؛ لأنه قال: (فأبواه يهودانه أو يمجسانه)، وهذا مسلك دقيق مبني على أن الغالب أن الوالدين سيجران الولد إلى دينهما، وإذا كان الوالدان مختلفين في الدين نُظر إلى خيرهما؛ لأن الولد إذا اختلف والداه نظر إلى أيهما أقرب ديناً، فهذا حاصل ما ذكر في هذه المسألة، فإذا كان صبياً دون البلوغ فإنه يحكم بكونه تبعاً لخير والديه ديناً.