Q ما حكم انصراف المأموم قبل انصراف الإمام بعد السلام؟
صلى الله عليه وسلم السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المأموم لا يقوم من مكانه إلا بعد أن ينفتل الإمام وينحرف، وهذا هو الأصل، وهو الذي كان عليه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت عليه سنته.
ومن هنا منع العلماء رحمهم الله قيام المأموم مباشرة، والعلة في ذلك عند العلماء مختلفة: فمِن أهل العلم مَن قال: إن السبب في هذا: أن النساء كن يصلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يمكث وقتاً وهو مستقبل القبلة حتى ينصرف النساء، ثم بعد ذلك ينصرف بوجهه إلى أصحابه رضوان الله عليهم.
وهذا أمر محتمل؛ لكن التعليل به ضعيف، والسبب في هذا: أنه لم يقصر ذلك على الصلوات الليلية التي كان يشهدها النساء دون النهارية.
وأيضاً: لو كان الأمر كما ذكروا، ففي صلاة الفجر أيسر أن تقوم المرأة دون أن ترى؛ لأن عائشة رضي الله عنها قالت: (إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي الفجر فيشهد معه نساء من المؤمنات، ثم ينقلبن إلى بيوتهن متلفعات بمُرُطهن لا يعرفن من شدة الغلس).
فلا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفتل من صلاته حين يعرف الرجل جليسه؛ لكن البعيد لا يعرفه.
وأيضاً: النبي صلى الله عليه وسلم فعله حضراً وسفراً، فقد كان في بعض أسفاره وغزواته عليه الصلاة والسلام لا يكون معه النساء، ومع ذلك كان يمكث، ولم يحفظ عنه التفريق في الأحوال الخاصة.
فمسألة (خوفَ أن تُرَى النساء) التعليلُ بها وارد؛ لكنها ليست بعلة قوية.
وهذا يدل على أن العلة الثانية وهي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث في مصلاه لخوف طريان السهو، ولذلك مكث عليه الصلاة والسلام تشجيعاً للأمة وتشجيعاً للأئمة أنه إذا انفتل الإمام من الصلاة ربما كان هناك نقص أو كانت هناك زيادة، فينبه قبل أن ينصرف من مكانه، احتياطاً لحق الله عز وجل في هذه العبادة.
وهذا أمر معهود، أن العبادات يصحبها شيء بعدها يستدرك به ما فات منها، ومن هنا فإن العلة بكونه يخْشى أن يطرأ شيء في الصلاة أو نقص سيكون في موضعه هو الأقوى.
ومن هنا يُشَدد في هذا الأمر، فلا يقم المأموم من مكانه ولا يتحول ولا ينصرف إلا بعد أن ينصرف الإمام بوجهه إلى المأمومين.
وأنبه على بعض طلاب العلم الذين يستعجلون في القيام بعد السلام مباشرة، ونحن لا ننكر القيام مباشرة إلى مجالس العلماء؛ بل نرى أن هذا شرف لطالب العلم؛ لكن بشرط أن لا يؤذي إخوانه المسلمين، ولو أن البعض ينكر؛ لكن لجهله، والسنة الصحيحة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء عنه في الصحيح أنه بعد سلامه قام مباشرة إلى غرفته وحجراته عليه الصلاة والسلام، وجاء بالتِبر لمصلحة شرعية.
ومن هنا قالوا: إذا كان هذا لدفع الضرر عن نفسه عليه الصلاة والسلام حينما قال: (ما ظن محمدٍ أن لو لقي الله وهذا عنده)، فكيف بمن يتحمل مصالح الأمة في طلب العلم؟! ثانياً: لو قال قائل: هناك بعد المغرب سنة راتبة، فنقول: قال بعض العلماء: يجوز تأخيرها إذا كان هناك حلقة علم أو محاضرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيح أنه جاءه وفد عبد قيس، فلم يصلِّ سنة الظهر إلا بعد العصر وقال (هما سنة الظهر، أتاني وفد عبد قيس فشغلت عنها آنفاً).
قالوا: وهذا من أجل تعليم العلم؛ لأنه كان يعلم عليه الصلاة والسلام ويوجه ويرشد.
فأنبه وأحذر من مسألة النقد؛ لأنه مما يؤلم ويؤسف له أن الناس في هذا الزمان عندهم جرأة على نقد الغير، وهذا أمر سببه قلة العلماء، وتساهل كثير من الناس في أمر اللسان، ولو كان طالب العلم عنده خطأ فينبغي أن لا تغتابه، فالبعض يتكلم على طلاب العلم، حتى إنه يبلغ الجرأة، حتى إن بعض العوام يقوم في المسجد ويتكلم عليهم قبل المحاضرة أو قبل الدرس ويسفههم.
وهذا لا شك أنه من جهله، وإلا فمن المفروض أن يسأل من يوثق بدينه وعلمه، حتى ولو أفتى عالم أن هذا منكر وأفتى غيره بأنه جائز، وعنده سنة صحيحة، فلا إنكار ما دام أن هناك مجالاً للسنة.
ووالله إننا لنبتهج ونُسر حينما نرى من يخاف الله ويتقيه ويسعى حثيثاً إلى مجالس العلماء، ويظهر من قوله وسمته ما يدل على تعظيم شعائر الله عز وجل، وكل إنسان عنده عقل وإدراك عندما يرى حرص طلاب العلم، أو يرى شباب الأمة يحرصون على مجالس العلماء ويزدحمون عليها، تدمع عينه من خشية الله، ويقول: الحمد لله الذي أبقى في هذه الأمة من يحرص على هذا الدين، فالحمد لله أنه لا يراهم على محرم أو على فجور، أو يتكالبون على دنيا.
وهذا شرف لطالب العلم، ولو وقف على رجليه ينتظر العلم والعلماء فإن هذا شرف والله، ولا ينقص من قدره ولا يحط من مكانته.
فعلى كل حال: على طالب العلم وعلى الناس أن ينتظروا حتى ينفتل الإمام، فإذا انفتل الإمام فلهم أن يقتربوا، ومن حضر محاضرة أو مجلس ذكر وأراد القرب من العالم، فلا شك أنه يقرب في الحلقة ولا يؤذي إخوانه، والله يعلم أنه ما دنا وأنصت إلا طلباً للعلم.
قال بعض العلماء: أرجو لمن اقترب من مجالس العلماء ودنا منها الرحمة من الله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيح أنه قال: (من بكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ثم دنا وأنصت) وكل هذا من أجل خطبة الجمعة، وحتى المشي لأجل العلم ولأجل ثواب العلم عُد قربة عند الله عز وجل وثواباً ورفعة درجة، وموجباً لهذه المغفرات التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك كان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم يكره لبعض من يجلس بعيداً عن الحلقة ولو كان في المسجد، إلا إذا كان عنده عذر أو مرض أو نحوه، أما إذا لم يكن عنده عذر فإنه يدنو ويزاحم ويحرص، لكن لا يؤذي إخوانه المسلمين.
وقد ذكر العلماء رحمهم الله عند بيانهم لآداب طلب العلم: فضل القرب من العلماء، وأن الله عز وجل وضع من البركة والخير والنفع للعالم القريب من علمائه ما لم يضع لمن هو أبعد، وهذا واضح جلي، ولذلك تجد الصحابة الذين كانوا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم خيراً.
وقد أشار إلى هذا الإمام الشاطبي رحمه الله في الموافقات، وبيّن أن الصحابة فتح الله عليهم لأنهم تلقوا مباشرة، وأنهم كانوا يحضرون مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم تفاوتوا في فضل الله عليهم بحسب قربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمن يقترب من مجالس العلماء يعلم الله أنه لا يريد دنيا، ولا يرجو تجارة ولا مالاً، وإنما يرجو رحمة ربه إذا أخلص لربه جل وعلا بخ بخ، هذه والله التجارة الرابحة {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:29]، ونحمد الله عز وجل ونشكره أن وجد من شباب الأمة ومن طلاب العلم من يعظم شعائر الله، لكن ينبغي على كل طالب علم أن يحرص على أمرين هامين في هذه المسألة: أولهما: الإخلاص لوجه الله عز وجل، وأن لا يقصد من قربه من العالم أن يعرف أو يشتهر، أو يكون له حظ أو حبوة عند العلماء، والله لا ينفعك أحد دون الله عز وجل، وحتى لو اقتربت من العالم وكنت كثوبه الذي على جسده قرباً ومواظبة، فلن يغني عنك من الله شيئاً، فكن عاقلاً وكن حكيماً، وابتغِ مرضاة الله عز وجل في كل ما تفعله وما تذره، فلا ينفعك إلا الله وحده لا شريك له، فعليك أن تخلص لله سبحانه وتعالى.
ثانياً: أن لا تؤذي إخوانك المسلمين، فإن الله لا يطاع لكي يعصى، ولربما جاء طالب العلم تغشاه السكينة والوقار وتأدب وجلس وأنصت، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة عن تخطي الرقاب؛ لأن فضائل الجمعة ما وضعت إلا من أجل الخطبة، ولذلك قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9]، ومن هنا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التفريق بين اثنين، ونهى عن أن يتخطى الرقاب، وجعل الفضائل لمن احترز من هذه الأمور.
والنبي صلى الله عليه وسلم في نهيه عن هذا إنما قصد الأصل الشرعي، وهو أن لا تؤذي إخوانك المسلمين، فليس من المعقول أن يأتي طالب علم متأخراً ثم يزاحم إخوانه، وإذا كان هناك مجال فيحتسب الإخوان ويتراحمون ويتواصون، وكل من جاء من إخوانك متأخراً وعندك مجال فتخيل أنك في مكانه، ونفس الحجة التي تريد أن تقيمها عليه انظر إلى حجته عليك لو كنت مكانه.
فهذا يوسع الصدر، ويجعل الأمر على محبة وتواد وتواصل وتعاطف وتكاتف وتآلف، وتحمد الله عز وجل أن جعل لك أخاً في الإسلام يطلب العلم كما تطلبه، وكل من عظم شعائر الله عز وجل فإنه يُحب في الله ويوالي في الله، وهذا من دلائل كمال الإيمان، فإنك تجلس في مجلس العالم وتتمنى أن إخوانك كلهم على كف واحدة، وهذا لا أقوله مبالغة؛ لأن هذا شيء عايشته، فقد كنا في مجلس الوالد رحمة الله عليه، وكانت من أصعب الأيام عندنا أيام رمضان، فكان رحمه الله يلقي بعد صلاة العصر درساً، وبعد الفجر وبعد الظهر، وكان أصعب الدروس درس العصر، فلم يكن في المسجد النبوي مكيفات ولا مراوح، وكان يستمر الدرس إلى قرب المغرب.
فكنا نجلس وسط الزحام، والرائحة التي تخرج من الأفواه بسبب الصوم، والعرق الذين يكون من الناس، وتزاحم طلاب العلم على ذلك، وقد مرت على بعض طلاب العلم حالات يجلس فيها فيجلس على يمينه رجل وعلى يساره رجل، ويزحم حتى يكاد يرى الموت، وكانت له ثلاثة دروس رحمه الله بعد العصر: درس في صحيح مسلم، ثم في الترغيب والترهيب، ثم في السيرة، وكان يجلس أكثر من ساعة ونصف إلى ساعتين في أيام الصيف؛ لأنه لا يترك الدرس إلا قبل الإفطار بنصف ساعة رحمه الله.
فالمقصود: أنه والله كانت تمر أشياء لا تزيدنا إلا محبة لإخواننا، فإذا شعرنا بحاجة المسلمين إلى هذا العلم وحاجة الناس إلى الدعوة، فإن هذا يعيننا على كثير من الصبر.
وأحب أن أنبه على مسألة أخيرة وهي: مسألة حجز الأماكن: فإني أناشد كل مسلم بالله عز وجل أن لا يحجز المكان إلا في حالة واحدة، وهي أن يأتي مبكراً ويجلس في مكان ولا يقوم منه إلا ل