[وإن قال لزوجته وأجنبية اسمها هند: إحداكما أو هند طالق، طلقت امرأته].
في هذه الحالة: إذا كان هناك امرأة في عصمته وامرأة ليست في عصمته، فقال: إحداكما طالق، فننظر من هي التي يتعلق الطلاق بها، ولا شك أن الأجنبية لا يتعلق بها الطلاق فيصرف إلى زوجته، للقاعدة: (الإعمال أولى من الإهمال).
فقد تلفظ بلفظٍ معتبر شرعاً، وهذا اللفظ لا يمكن إهماله؛ لأن الشريعة آخذت المطلق حتى في حال الهزل، فلا يمكن إهمال هذا اللفظ، وهذا لتعظيم حرمات الله وعدم اتخاذ آيات الله هزوا ولعباً، ولذلك قال الله في أمر الطلاق: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229]، وقد ذكر هذا في أكثر من موضع من كتابه سبحانه وتعالى، وقال: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق:1].
والعلماء يقولون: (لفظ الطلاق مبنيٌ على الخطر) فهو يقول: إحداكما طالق، فإذا قال ذلك لزوجته وأجنبية، فالأصل شرعاً في اللفظ أن يُعمل به، ولذلك قالوا: ينصرف اللفظ إلى زوجته؛ لأنه يقول: إحداكما طالق، فقد جزم لنا بأنه مطلق لكن هل هو مطلقٌ للأجنبية أو لزوجته قالوا: ينصرف الطلاق إلى زوجته؛ لأن الطلاق صادف محلاً، والآخر ليس بمحل، فينصرف إلى ظاهر الشرع وهو أنه متعلقٌ بزوجته لا بالأجنبية، وحينئذٍ تطلق عليه زوجته وينصرف الطلاق إليها.
وذهب بعض العلماء رحمهم الله إلى أنه لا تطلق عليه زوجته، ولا يحكم بطلاقها؛ لأنه يحتمل أن تكون الأجنبية مطلقة، لكن إذا كان في قرارة قلبه طلاق زوجته وقع الطلاق.
وكل هذا إذا لم يعين، أو مات بعد تلفظه بالطلاق على هذا الوجه؛ فإنه يحكم بالطلاق على ما اختاره المصنف، ودليله ما ذكرنا.
قال رحمه الله: [وإن قال: أردت الأجنبية لم يقبل حكماً إلا بقرينة].
هذا من المصنف رحمه الله احتياط للشرع، والعلماء الذين اختاروا وقوع الطلاق نصوا على أنه لو قال: أردت الأجنبية لم يقبل منه؛ لأنه يلغي ما ثبت، والإعمال أولى من الإهمال فنحن علمنا اللفظ، ولو صرفناه للأجنبية لأهملناه، والإعمال أولى من الإهمال.
فالإعمال معتبر شرعاً ومقدمٌ على الإهمال، فإذا قال: أردت الأجنبية، فهو متهمٌ في قوله، والمتهم في قوله فيما بينه وبين الله ينفعه إذا كان صادقاً في قوله: إحداكما طالق فقصد الأجنبية؛ وله أن يعاشر زوجته ولو كانت الطلقة الثالثة.
مثال ذلك: رجل اسمه محمد قال لزوجته عائشة وهي جالسة مع امرأةٍ أجنبية: إحداكما طالق، وقصد الأجنبية، وكان فيما بينه وبين الله أنها الأجنبية ولم يقصد زوجته، وقال: إحداكما طالق، بقصد أنها ليست في عصمته وليست بحلالٍ له؛ ففي هذه الحالة لو كانت زوجته قد طلقها قبلُ طلقتين: وقال لها: أنا قصدت الأجنبية، فصدقته، وهو معروف بالصدق والأمانة، فلها أن تعاشره ولا حرج عليه ولا عليها.
لكن لو رُفِع الأمر إلى القضاء، فالأمر يختلف في هذه الحالة، فإنه لا يقبل منه إلا بقرينة، وقد فصَّلنا في هذه المسألة -مسألة الطلاق قضاءً وديانةً- وذكرنا أنه إذا كان صادقاً فيما بينه وبين الله، فإنه ينفعه القول في الطلاق، ويسقط عنه الطلاق ديانةً فيما بينه وبين الله؛ لأنه متحقق وجازم في قرارة قلبه والله مطلعٌ على سريرته، فهو لم يرتكب حراماً، وأما قضاء فلا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس، وأن أَكِل سرائرهم إلى الله)، فهذا يدل على أن القضاء يجري على الظاهر، ولا حكم للباطن إلا في المسائل التي نص الشرع على اعتباره فيها، فالظاهر هو المحتكم إليه.
وقال صلى الله عليه وسلم: (إنكم لتختصمون إليَّ، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له بنحو ما أسمع) فالقاضي ظهر له أن الرجل تلفظ بلفظ شرعي مؤاخذ عليه، وهذا اللفظ الشرعي ما بين إعمالٍ وإهمال، وأصول الشريعة تقتضي أن الإعمال مقدمٌ على الإهمال، وأن الطلاق لا يتعلق بالأجنبية فصُرِف إلى من يتعلق بها الطلاق، ولا يقبل غير ذلك منه إلا بقرينة، فإذا وجدت قرينة إكراه، ودفع مظلمة، ودلت دلائل بساط المجلس على أنه لا يريد زوجته وإنما يريد الأجنبية، فحينئذٍ لا تطلق عليه زوجته وتعاد إليه، ويحكم القاضي باعتبار نيته.