قال رحمه الله: [وإن تبين أن المطلقة غير التي قرعت ردت إليه ما لم تتزوج أو تكن القرعة بحاكم].
هذه من آثار الحكم، وهذا من كمال الشريعة الإسلامية ودقة أهل العلم رحمهم الله فإنهم لا يبحثون فقط في حكم المسألة وإنما يعتنون ببيان ما يترتب عليها من آثار، وفصلوا في المسائل التي تنبني على الأصول، وفرعوا الفروع في القواعد، كل هذا حتى يكون النظر والفهم من الفقيه شاملاً؛ لأن الشريعة شريعة كمال، ومن كمال الشريعة العناية بمثل هذه المسائل.
ولو أن القرعة خرجت على واحدة وطلقت عليه، وتبين بعد خمس سنوات أو ست سنوات من هي التي قصدها، فتذكر وقال: كنت أقصد فلانة، وتبين أن التي قصدها غير التي خرجت عليها القرعة، فقد عاش مع هذه المطلقة البائنة منه وهي امرأة أجنبية؛ عاش معها على أنها زوجته وفي عصمته، وربما أنجب منها أولاده، وكذلك أيضاً الثانية هي زوجته وفي عصمته وربما تزوجت أجنبياً، وهي امرأة في عصمة غيره، فما الحكم في هذه الآثار؟ أولاً: بالنسبة للزوجة التي بقيت في عصمته وهي أجنبية، فوطؤه لها وطء شبهة لا يوجب الحد لا عليه ولا عليها، وهذا ما يسميه العلماء بنكاح الشبهة، بأن يكون عنده شبهة تبيح له وطء امرأة يظن أنها زوجته، فحينئذٍ يدرأ عنه الحد ولا يفتى أنه زان، ولا يحكم بزناه، ولذلك لما عُرّف الزنا قيل: (الوطء في غير نكاحٍ صحيح ولا شبهة)، فشبهة النكاح تدرأ الحد، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ادرءوا الحدود بالشبهات)، وتسري عليه الأحكام، فيكون ما أنفق عليها لقاء استمتاعه بها، والنفقة ليست واجبة على الأجنبية، فنقول: ليس من حقك أن تسترد نفقة السنوات الماضية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فلها المهر بما استحل من فرجها، وقال تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء:24]، فدل على المعاوضة في جانب الوطء والنفقة.
ثانياً: بالنسبة للمرأة الثانية التي هي في عصمته، والتي تبين أنها زوجته، فحينئذٍ ينظر فيها: قال بعض العلماء: ترد له بكل حال، وهذا في الحقيقة أقوى المذاهب وأعدلها وأولاها بالصواب؛ لأن نكاح الثاني فاسدٌ تبين خطؤه، وقد ظنوا أنها أجنبية منه، والظن مخطئ، وإذا تبين خطؤه رجع إلى الأصل.
قاعدة: (لا عبرة بالظن البين خطؤه) أي: الذي بان خطؤه، فنحن صححنا النكاح بظننا أنها أجنبية، وقد تبين أنها محصنة، وقد نص الله في كتابه على أن المحصنات من النساء لا يحل نكاحهن، وأجمع العلماء على أنه لا يجوز نكاح المرأة وهي في عصمة الزوج، وإذا ثبت هذا فهي امرأة في عصمة زوج، فيكون دخول نكاح الثاني لاغياً وترد إلى الأول.
هذا عند بعض العلماء؛ لكن أشكل على هذا القول أن بعض أهل العلم -كما اختاره المصنف رحمه الله- قال: إنها إذا تزوجت رجلاً ثانياً وقال الأول: أنا قصدت بالطلاق فلانة فيتهم في قوله؛ لأننا نكون حينئذٍ قد ألغينا نكاحاً ثابتاً؛ لأن النكاح الثاني وقع بصفته الشرعية، وأردنا أن نلغيه بقول من يتهم في قوله، لأنه ربما قصد رجوع تلك المرأة إليه؛ فقال: أتذكر من التي طلقتها! أنا طلقت فلانة.
فقالوا: لا يصح أن نرفع اليقين من كونها زوجةً للثاني باحتمال من هذا الرجل الذي قد يتهم في قوله.
ولذلك قالوا: لا نرفع اليقين بالشك، وهذا القول هو الذي اختاره المصنف، قالوا: لكن صححنا الأول وقويناه في حالةٍ واحدة، وهي أن يثبت بالدليل أنه عين التي قصدها؛ كأن يكون مع رجلين وقال: خديجة طالقٌ مني، فتكون هي التي عينها، ثم رجع إلى بيته فنسي من التي طلقها أهي خديجة أو عائشة، فلما قيل له: من الذي طلقت؟ قال: أنا أجزم بأن إحداهما طلقت ولكن لا أدري أخديجة أو عائشة، فنقول حينئذٍ: عيَّن، فإن قال: لا أدري ولا أستطيع، قلنا: هل سمعك أحد؟ فإن قال: سمعني رجلان، قلنا: هل تستطيع أن تعثر عليهما؟ فإن قال: لا.
ثم بعد سنتين التقى بالرجلين فقال: هل طلقت خديجة أو عائشة؟ فإن قالوا: طلقت خديجة، فحينئذٍ لا إشكال أن ثبوت البينة والدليل يقوى على رفع نكاح الثاني وإلغائه؛ لأنه دل الدليل على ثبوت العصمة للمرأة وأنها باقية على نكاح زوجها الأول وقد نكحت الثاني امرأة محصنة، فلا يصح نكاح الثاني، وقد تبين خطؤه، وهذه هي الحالة التي نصحح فيها هذا القول ونقويه، ونقويه أيضاً ديانةً فيما بينه وبين الله، فإنه إذا جزم فيما بينه وبين الله أنه عين خديجة فلا إشكال، وهذا فيما بينه وبين الله، ويحل له أن يرجع إليها ما لم تكن قد تزوجت؛ على التفصيل الذي ذكرنا.
وقوله: [أو تكن القرعة بحاكم].
أي: بحكم الحاكم كما سيأتي إن شاء الله في كتاب القضاء، ولا يجوز نقضه ولا فسخه إلا إذا عارض نصاً صريحاً قاطعاً في كتاب الله، أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو شذ عن الإجماع، فهذه هي الحالات التي تنقض فيها أحكام القضاة، أما لو كانت المسألة خلافية وقضى القاضي بأحد القولين فلا يجوز لأحد أن ينقض قوله كائناً من كان؛ لأن الله تعبده أن يقضي في هذه المسألة بما يراه الحق.
ولو فتح الباب لكل قاضٍ أن ينقض أحكام من قبله من القضاة الذين خالفوه لما استقام الأمر، ولذلك لا يعقب على حكم القاضي الذي تأهل للقضاء إلا إذا عارض نصاً من كتاب الله، أو من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أو إجماعاً كما سيأتي إن شاء الله بيانه.
ويشترط في النص أن يكون صريحاً، فإن النص المحتمل كما أنه يحتمل قول الآخر فهو يحتمل قول القاضي، وليس أحد الاحتمالين بأولى من الآخر، وما دام أن الشريعة جاءت بنصوص محتملة فقد عذر كل من أخذ بهذه الاحتمالات ما لم يكن بعضها أرجح من بعض، وحينئذٍ يعمل المسلم فيما بينه وبين الله بما ترجح، لكن الراجح عندي لا ألزم به غيري إذا رآه مرجوحاً، فكلٌ يعمل بما ترجح عنده، وهذا الذي جعل العلماء يقرون القاعدة المعروفة: (لا إنكار في الخلاف) أي: لا ينكر في المسألة الخلافية.
فإذا رفعت القضية إلى القاضي فأقرع بينهما وحكم أن المطلقة خديجة ففي هذه الحالة نحكم بأن خديجة قد أصبحت أجنبيةً وحل نكاح الثاني لها، ولا يمكن أن يزال هذا اليقين بشكٍ خاصة وأن الزوج الأول متهم في قوله.