الصورة الثالثة: أن يكون الشك في عدد الطلاق

في الصورة الثالثة: أن يتحقق من وقوع الطلاق ولكن لا يدري كم طلق زوجته، فقال: قلت لامرأتي أنت طالق وأشك، هل طلقتها ثلاثاً أو اثنتين أو واحدة؟ فنقول: يبنى على الأقل، فإن قال لها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، فهذه ثلاث تطليقات، وفي الأصل: أن من تلفظ بالطلاق ناوياً الطلاق ثلاثاً -كما تقدم معنا- أنه تنفذ عليه الثلاث في مجلسٍ واحد أو كلمةٍ واحدة، كما قضى به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وانعقد عليه سواد الأمة الأعظم، ولا مخالف له من الصحابة في مواجهته حينما أفتى به على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فإذا تلفظ بهذا فالأصل أنه ملزمٌ بالثلاث، لكن لو أنه شك هل الذي قاله: طلقتين أو قال: ثلاث تطليقات فإنه يبني على اثنتين؛ لأنه إذا شك هل طلق واحدةً أو اثنتين فهو لا يشك أنه طلق واحدة، والشك في الطلقة الثانية هل وقعت أو لم تقع، وإذا شك هل طلق طلقتين أو ثلاثاً فإنه يجزم بأن الاثنتين وقعتا، ولكن الشك في الثالثة هل وقعت أو لم تقع! فالأصل أن يبني على الأقل، وقد بينا هذه المسألة وذكرنا كلام العلماء رحمهم الله فيها وأشرنا إلى قاعدتها الأصلية: (اليقين لا يزال بالشك) وذكرنا الفروع التي بناها العلماء في المسائل المتقدمة معنا في كتاب العبادات، فيقال: من شك هل طلق طلقتين أو ثلاثاً بنى على اثنتين، ومن شك هل طلق واحدةً أو اثنتين بنى على واحدة؟ إذاً الثلاث الصور: وقوع الطلاق وعدم وقوعه، والشك في الشرط هل وقع فيقع الطلاق أو لم يقع فلا طلاق، أو الشك في العدد؛ فإن الكل يجري فيه الزوج على اليقين، أما الزوجة فزوجته حتى يتحقق من ثبوت موجب الطلاق.

وهذا من رحمة الله لعباده، وتيسير الله عز وجل على هذه الأمة التي وضع عنها الآصار، ولو تصور المسلم أن الله آخذ كل من شك بشكه لما استقامت الحياة للإنسان، وقل أن تجد إنساناً إلا وقد ابتلاه الله بشيءٍ من حديث النفس في أمرٍ من أموره، ولذلك لو فتح باب الوسوسة لأصبح الناس في عناءٍ وضيق وحرج لا يعلمه إلا الله، فالحمد لله الذي لطف بعباده، ويسر علينا، وهدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

وقول المصنف: [وإن شك في عدده فطلقة وتباح له].

هذه الجملة تحتاج إلى تفصيل؛ لأن قوله: (إن شك في عدده) هذا إذا شك: هل هو واحدة أو اثنتين يقال: واحدة، أما لو شك اثنتين أو ثلاثاً فإنه يبني على اثنتين قولاً واحداً عند العلماء أن من شك: هل طلق زوجته طلقتين أو ثلاثاً بنى على طلقتين؛ لأنه متيقن أنها طلقتان وشاك في الثالثة هل وقعت أو لم تقع؛ مثلما ذكرنا في الصلاة.

والأصل في هذا كله حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم فلم يدر واحدةً صلى أو اثنتين فليبن على واحدة، فإن لم يدر اثنتين صلى أو ثلاثاً فليبن على اثنتين، فإن لم يدر أثلاثاً صلى أو أربعاً فليبن على ثلاث، ثم إذا تشهد فليسجد سجدتين قبل أن يسلم) الحديث.

هذا الحديث الثابت في الصحيح كما في رواية ابن عباس أصل عند العلماء رحمهم الله في البناء في الأعداد على الأقل، فمن شك هل صلى واحدة أو اثنتين بنى على واحدة، ومن شك في زكاته هل أخرج كل الزكاة أو نصف الزكاة بنى على أنه أخرج نصفها حتى يتحقق أنه قد أدى حق الله بأداء الكل.

والمرأة إذا كان عليها الحداد وشكت هل مر عليها أربعة أشهر وعشر، أو أربعة أشهر وتسعة أيام؛ بنت على أنها تسع حتى تتحقق من اليوم العاشر، ومن شك هل صام الشهرين متتابعين أو بقي له يوم أو يومان بنى على أنه لم يصم اليومين حتى يتحقق من ذلك.

وفي الزكاة لو أنه وجبت عليه مائة ألف، فشك هل أخرج تسعين ألفاً أو مائة ألف نقول: أنت على يقينٍ أنك أخرجت تسعين ألفاً وشككت من المائة، فالذي دفعته هو تسعون ألفاً حتى تتحقق أنك أكملتها مائة، فيجب عليه التمام والبناء على الأقل، والعكس: فلو شك هل بلغ ماله النصاب أو لم يبلغ فالأصل أنه لم يبلغ حتى يتحقق أنه وصل إلى العدد الذي هو نصاب ماله.

وكذلك أيضاً في الحج: فمن طاف وشك هل طاف سبعة أشواط أو ستة أشواط بنى على الستة، ومن سعى على الصفا والمروة وشك هل هذا الشوط هو الخامس أو السابع ولم يكن هناك قرينة، كما لو وقف على المروة وشك هل هو في الخامس أو السابع أو شك وهو على الصفا هل هو في الشوط الثاني أو في الشوط الرابع؛ فإنه يبني على الأقل وهو الثاني؛ لأنه على يقين من الأقل وعلى شكٍ مما زاد، فيبني على الأقل.

وكذلك في رمي الجمار، لو أنه شك هل رمى سبع حصيات أو ستاً، بنى على ستٍ حتى يتيقن أنه رمى السابعة.

وكذلك في المعاملات مثلما ذكرنا هنا في الطلاق: فلو أنه شك هل طلق طلقتين أو واحدة بنى على واحدة كما ذكر المصنف، وذكر الواحدة لأنها الأصل، وما زاد على ذلك يبنى على هذه المسألة، فإن شك هل طلق اثنتين أو ثلاثاً قلنا: يبني على اثنتين ولا يبني على واحدة؛ لأن الواحدة مفروغٌ منها، وإنما الشك هل هما طلقتان أو ثلاث تطليقات، فيقال: إنهما طلقتان حتى يتحقق أنه قد طلق الثالثة.

إذا جئت إلى أي مسألة من هذه المسائل فهناك أصلٌ وخارج عن الأصل، ففي الصلاة الأصل أنه مطالب بأربع ركعات والله فرضها عليه، وذمته مشغولةٌ بها، فإذا جاء يقول: أصليت أربعاً أو ثلاثاً، فنحن متأكدون أن ذمته قد فرغت من الثلاث وشككنا في الرابعة، فنرجع إلى الأصل أنه لم يؤدها حتى يتحقق أنه أداها، وكذا لو طاف بالبيت وشك هل هو في الشوط السابع أو في السادس نقول: إن الله فرض عليه أن يطوف سبعاً، فإذا تحقق من ستة وجب عليه أن يتم السابع كما أمره الله.

كذلك هنا في مسألة الطلاق: الأصل أنها زوجته وامرأته، فإذا شك هل طلقها ثلاثاً فهي بائنٌ منه أو طلقها طلقتين فليست ببائنة، فالأصل أنها زوجته، فكل شيء له أصل، فإذا عارضه ما لا يقوى على رفعه وهو من الشكوك والاحتمالات سقط الشك وبنى على اليقين، وهذا معنى قول العلماء: (اليقين لا يزول بالشك)، فاليقين في الطلاق أنها زوجته، ولا يزول بالشك وهو أنه حرمها بالثلاث.

وهكذا: اليقين لا يزول بالشك، فاليقين أنه طلق طلقتين، فلا يزال بالشك في الثالثة، واليقين أنه إذا شك واحدة أو اثنتين، فاليقين أنه طلق طلقة واحدة فلا نزيل يقين الواحدة بشك الثانية، وقس على ذلك بقية المسائل؛ فإنها مبينة على هذا الأصل الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015