Q يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما) فهل يشرعُ للمكي الإكثار من العمرة أم أن الطواف بالبيت يكفيه ويدرك هذا الأجر أثابكم الله؟
صلى الله عليه وسلم قد اختلف العلماء رحمهم الله في العمرة للمكي، فجمهور العلماء على صحة العمرة من المكي، وجوازها ومشروعيتها له؛ لأن عائشة رضي الله عنها كانت من مكة وأخذت حكم مكة ونزلت وأحرمت من أدنى الحل وهو التنعيم، ورخص لها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، قالوا: فهذا أصل على أنه يشرع لمن كان من مكة؛ ولأن المكي يتمتع في أصح قولي العلماء، ويدل على ذلك عموم قوله تعالى {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة:196] أي: أن الهدي لازم على غير المكي، أما المكي إن تمتع فلا هدي عليه، والشاهد أنه إذا كان المكي يتمتع فإنه قطعاً ستقع منه العمرة.
والقول الثاني: أن المكي لا يعتمر وشددوا في العمرة له وهو قولٌ عند الحنابلة رحمهم الله، واختاره بعض المتأخرين، وكان عطاء رحمه الله يقول: (لا أدري هؤلاء الذين يذهبون إلى التنعيم) كأنه يشدد ويرى أن طوافهم بالبيت أفضل من اشتغالهم بالذهاب إلى التنعيم والرجوع؛ لأن العمرة يقصد منها الطواف بالبيت فإذا كانت هذه الخطوات التي سيذهب بها إلى التنعيم يسددها في طواف البيت فهذا أفضل له.
فلو قيل من جهة الأفضلية ساغ أن يقال له: إن الأفضل له أن يطوف بالبيت، وأن يستكثر من الطواف؛ لأن المقصود من العمرة هو الطواف بالبيت لا أن معنى ذلك حرمة العمرة عليه، ومنعه منها.
والله تعالى أعلم.
أما تكرار العمرة ففيه خلاف بين العلماء، وجمهور العلماء على أنه يجوز للمسلم أن يكرر العمرة في العام أكثر من مرة، وهذا مذهب جمهور العلماء، وشدد في هذه المسألة الإمام مالك بن أنس رحمه الله بناءً على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر إلا مرة واحدة في العام، ولكن قوله مرجوح؛ لأن هذا الذي فعله عليه الصلاة والسلام ليس على سبيل الإلزام، إذ إن المعلوم أن عمره عليه الصلاة والسلام معدودة، ولو قيل بظاهر هذا للزم أن الإنسان لا يعتمر في عمره إلا بعدد ما اعتمر عليه الصلاة والسلام، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يترك العمل وهو يحب أن يفعله خشية أن يفرض على الأمة.
ومما يدل على مشروعية تكرار العمرة دليلان قويان: أولهما: هذا الحديث: (العمرة إلى العمرة، ورمضان إلى رمضان، والصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة؛ مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر)، فهذا يدل على فضل الإكثار من العمرة.
الدليل الثاني وهو من أقوى الأدلة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي إلى قباء كل سبت، ومن المعلوم أن المجيء إلى قباء كان لقصد فضيلة العمرة وأجرها.
فدل هذا على أنه لا بأس ولا حرج على المسلم أن يكثر من العمرة؛ ولأن الأصل جوازها حتى يدل الدليل على منعها وتحريمها.
وجمهور السلف رحمهم الله على مشروعية تكرار العمرة، وليس في ذلك حد معين بحيث يقال: كل أربعين يوم، أو كل أسبوع، أو كل عشرة أيام؛ فالأمر في ذلك مطلق من الشرع، والأصل في المطلق أن يبقى على إطلاقه، ومن أراد أن يقيد فإنه ملزمٌ بالدليل الذي يدل على ذلك التقييد.
والله تعالى أعلم.