بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين: أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الشك في الطلاق].
الشك: استواء احتمالين.
فكل شيء تردد عندك وأصبحت ظنونه في نفسك بمنزلة واحدة، فإنه شكٌ.
مثلاً: إذا رأى الإنسان شخصاً فظنه فلاناً، فإما أن يراه على صفاته الحقيقة بحيث يقطع أنه لا يمكن أن يكون غيره، يقطع بأنه فلان، رآه بشخصه، وسمعه بأذنه، فيقول: هو فلان، فهذا يقين، واليقين كما يقول العلماء: هو درجة من العلم القطعي الذي هو 100%.
وإما أن يشك هل هو فلان أم فلان، بحيث يرى فيه الصفات المتعلقة بشخصٍ يعرفه، لكن هناك احتمال أن يكون شخصاً آخر يشبهه، وغالب ظنه أنه فلان، فيقول: أغلب ظني أنه فلان، فهذا غلبة ظن.
فإن كان الذي رأيته قد استوى فيه الاحتمالان حيث احتمل أنه فلان واحتمل أنه فلان ولا مرجح لأحد الاحتمالين فهذا يسمى بالشك، وهو كما قال العلماء: بدرجة 50% لا تزيد ولا تنقص، ليس لأحد الظنين مزية على الآخر فهذا يسمى بالشك، فإن نقص الظن إلى الدرجة الضعيفة وهي التي تقابل الظن الراجح سمي وهماً.
فهناك وهمٌ، وهناك شكٌ، ثم ظنٌ، ثم يقين، فهذه أربع مراتب للعلم، وقد تقدمت معنا في كتاب الطهارة، وفصلنا في أحكامها، وفصلنا قواعد الشريعة التي تدل على اعتبار اليقين والظنون الراجحة، والتي تدل على الرجوع إلى الأصل عند استواء الاحتمالين، والتي تدل على إسقاط الظن الفاسد.
ومراتب العلم هي: الظن الفاسد: وهو الضعيف، وليس له مكان في الشريعة؛ بمعنى أنه لا يعمل به ولا يعول عليه، وللإمام العز بن عبد السلام في كتابه النفيس قواعد الأحكام في مصالح الأنام، كلام نفس في الظنون الضعيفة، ويسميها العلماء الظنون الفاسدة، والظنون الفاسدة لا تحتاج الشريعة لها إذ لو اعتبرت الشريعة بالظنون الفاسدة لما استقامت أمور الناس ولما استقامت أحكامها؛ لأن كثيراً من الأشياء بنيت على غلبة الظن، فالدماء والأموال والفروج تستباح كلها بالظنون الراجحة، فلو شهد شاهدان عدلان أن فلاناً قتل فلاناً قتل بشهادتهما، مع أنه يحتمل أنهما أخطآ، لكن الاحتمال ضعيف ما دامت شهادتهما مقبولة، وما داما عدلين فإن شهادتهما مرضية، فيحكم بها.
كذلك تستباح الأموال فإن الإنسان إذا خاصم شخصاً في القضاء وقال: إن لي عنده مائة ألف، وشهد شاهدان عدلان أنه أعطاه مائة ألف ولم يثبت ردها؛ فإنه يحكم بثبوت المائة الألف في ذمته قال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282] فحكمت الشريعة بالظن الراجح، وأسقطت الظن المرجوح، وهو احتمال أن الشاهدين أخطآ، واحتمال أنهما يخطئان في قدر المال، واحتمال أنهما نسيا أداءه، إلى غير ذلك من الظنون المحتملة، لكنها ضعيفة، فعملت الشريعة بالظنون الراجحة وأسقطت الظنون المرجوحة.
والمرأة يعقد عليها الإنسان ويستحل فرجها بكلمة الله عز وجل ويأخذها بأمانة الله، وأحكام النكاح مبنية في كثير من المسائل على غلبة الظن، كذلك أيضاً بالنسبة لأحكام الطلاق، فإنها لا تُبنى على الظنون الفاسدة، ولا يعول فيها على الظن الفاسد، فلو أنه دخل عنده وسواس وشكٌ بسيط أنه طلق زوجته فإنه لا يُلتفت إلى هذا الظن ولا يلتفت إلى هذا الوسواس ولا يعول عليه، ولو دخل له هذا الوسواس والظن المرجوح أنه حصل منه ظهار فإنه لا يلتفت إليه ما لم يتحقق ويستيقن أو يغلب على ظنه.
إذاً: الظن الفاسد لا يعمل به.
النوع الثاني: الظن الراجح: وهو عكس الفاسد، وذكرنا أن الشريعة تعمل به وتحكم به، وذكرنا أمثلته.
النوع الثالث: العلم القطعي، فإذا كان الظن الراجح يعمل به فمن باب أولى المقطوع به.
النوع الرابع الذي سنتحدث عنه اليوم: وهو الظن المتردد المحتمل، الذي لا مزية لأحد طرفيه على الآخر، بحيث يشك شكاً مستوي الطرفين.
فمثلاً: يشك هل طلق زوجته أو لم يطلقها، شكاً مستوي الطرفين، ولا يستطيع أن يرجح أنه ما تلفظ بالطلاق ولا يستطيع أن يرجح أنه تلفظ بالطلاق؛ فهل تطلق عليه زوجته؟ كذلك أيضاً لو حصل هذا الشك في عدد الطلقات، أو حصل الشك في إثبات ما ينبغي عليه وقوع الطلاق، أو نفي ما نفيه وقوع للطلاق، فكل ذلك يكون فيه الظن متردداً حتى نقول: إنه شك، فلا نقول بوجود الشك إلا عند استواء الاحتمالين استواء تاماً كاملاً لا مزية لأحدهما على الآخر.