وكما أن التأويل في النصوص محمود ومذموم، فكذلك التأويل في الكلام، فقد تكون محقاً في تأويلك، تستخدمه عند الحاجة، مثل أن تدفع عن نفسك ظلم ظالم، فتأتي بكلامٍ تقصد شيئاً ومن يسمعك يفهمه على المعنى الذي يريد، مثل قوله عليه الصلاة والسلام: (نحن من ماء) فكل إنسان مخلوق من الماء: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق:6] فصار من سمعه يقول: أي ماء؟ ماء بني فلان؟ ماء بني فلان؟ وصدق النبي صلى الله عليه وسلم فإنه قال له: (نخبرك ممن نحن إن أخبرتنا) لأنه كان يخاف العيون فلما أخبرهم الرجل بما يريدون سألهم: ممن أنتم؟ -لأنهم كانوا ثلاثة- فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نحن من ماء) فأخبره أنه مخلوق من ماء، وهذا نوع من التورية، وفي الأثر: (إن في التورية لمندوحة عن الكذب).
فقد تبتلى ببلاء فجعل الله لك فسحة في الخروج من هذا البلاء بالتورية، مثلاً: قرع على بابك رجل يعطلك عن عبادة، أو أنه يغتاب الناس، نمام، فيه شر، فتريد أن تبتعد عن شره، فيقول ابنك أو البواب الذي على الباب: خرج إلى الصلاة، لكن ما قال: لم يعد، وفعلاً أنت قد خرجت إلى الصلاة ورجعت.
كان إبراهيم النخعي سيداً من سادات التابعين، وإماماً من أئمة السلف رحمه الله برحمته الواسعة، وكان عنده جارية فإذا جاءه الثقيل الذي يشغله عن العلم، ويشغله بغيبة الناس يستئذن عليه خط دائرة على الأرض، وتضع أمته أصبعها في الدائرة وتقول: والله ما هو فيها -يعني: ليس في الدائرة- فيسمع الذي في الخارج: ما هو فيها؛ فيظن أنها تعني أنه ليس في البيت، وإنما مرادها ليس في الدائرة.
وكان مهنا من أصحاب الإمام أحمد رحمه الله عنده توريات، فكان إذا استأذن أحد يريد الإمام أحمد أو يريد المروزي من خيار أصحاب الإمام أحمد وكان مهنا يحبه ولا يحب أن يشوش أحد عليه أو يشغل الإمام عنه فكان يقول: إن المروزي ليس هنا، ويضع إصبعه على كفه، يعني: ليس في كفه وهذه تورية.
كذلك أيضاً قالوا: من أمثلة ذلك: أن يكون مظلوماً يحلَّف بالطلاق، فيقول -مثلاً: نسائي طوالق، ويعني بنسائه: محارمه، أخته وأمه وبنته وعمته وخالته، وهن طوالق، ولا يقصد نساءه اللاتي في عصمته، ومن أمثلتها قول: جواريَّ معتقات، أو: أعتقت جواريّ، والمراد بالجواري: السفن التي يملكها؛ لأنها جوارٍ في البحر، أو يقول -مثلاً-: والله ما رأيت فلاناً كأن يكون هناك شخص يريد أن يقتل آخر ظلماً، فإذا قلت: إنك رأيته، تكون قد دللت عليه ويحصل الضرر، فتريد أن تنقذ نفساً محرمة -كما ذكر الإمام ابن قدامة وغيره من الأئمة- فتقول: والله ما رأيت فلاناً وتقصد برأيت: الضرب على الرئة، أي: ما ضربته على رئته وكذلك تقول: والله ما ذكرت فلاناً، أي: ما تكلمت بذكره، وما ذكرته في مجلس، فهذا كله يقول النبي صلى الله عليه وسلم عنه: (إن في التورية لمندوحة عن الكذب).
لكن على طالب العلم أن يحذر من هذا، وعلى العالم أن يحذر من التوريات خاصة مع العوام فمن يسيء الفهم سيقول: الشيخ يكذب، والإمام يكذب؛ لأنه قد يفهم خطأ، فلذلك ينبغي استعمالها بحذر، فهي سلاح ذو حدين؛ فالإنسان إذا لم يحتج إليها ولم يكن مظلوماً ولم تكن هناك ضرورة فعليه أن يبتعد عنها ما أمكن.
ولا شك أن الصدق كله خير وبركة، لكن الله وسع على العباد، فهذا من التوسعة والرحمة على العباد، وفيه حديثٌ صحيحٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن في التورية لمندوحة عن الكذب) وهي التي تسمى بالمعاريض، وكان عليه الصلاة والسلام يفعل هذا حتى في المزاح، وقد أمسك صحابياً من وراء ظهره فقال: (من يشتري مني هذا العبد؟ فقال: إذاً تجدني كاسداً، قال: إنك عند الله لست بكاسد) وهذا من ملاطفته عليه الصلاة والسلام، وقال لامرأة لما شكت زوجها: (زوجك الذي في عينه بياض، فقالت: لا يا رسول الله! إنه مبصر)، ظنت أنه يقصد أنه أعمى، فقال: (يا أمة الله! كل عينٌ فيها بياض).
وقال ملاطفاً لعجوز: (لا تدخل الجنة عجوز، فبكت فقال لها: ألم تسمعي قول الله عز وجل: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً} [الواقعة:35]) فهذا كله من الكلام الذي لا يراد ظاهره، وإنما يراد به معانٍ أخرى، اقتضت جلب المصلحة أو درأ المفسدة، فتجوز هذه التورية، وهذا في الحقيقة من عظمة هذا الدين؛ لأنه: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195] فاللسان العربي اختار الله له أشرف كتبه وأفضلها وهو القرآن، ومن عظمة هذه اللغة أنها تحتمل المعاني العديدة، ومن هنا أجمع العلماء على عدم جواز ترجمة القرآن حرفياً؛ لأنه ليس هناك لسان بهذه السعة، وبهذا الإعجاز العجيب البديع الغريب الذي يتضمن ما تتضمنه هذه اللغة، فلا يستطيع المترجم مثلاً أن يترجم: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187] لا يستطيع أن يترجمها بلسان آخر مع إبقاء المعاني الجميلة البديعة الموجودة فيها، وهكذا قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223] لو ترجمت حرفياً إلى لسان آخر لكانت غير واضحة، فيحتاج في ترجمتها إلى جمل عديدة، حتى يبين هذا المدلول، ولا يمكن أن يوجد في لسان مثلما يوجد في اللسان العربي من المعاني العجيبة، والكلمة الواحدة ربما جاء فيها أكثر من عشرة معانٍ، وهذا من سعة اللغة، ومن هنا كانت المعاريض والمندوحات بشيء يحتمله اللفظ جائزة.