بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [باب الحيض].
الحيض باب عظيم، وتتفرع عليه مسائل عظيمة تتعلق بعبادات الناس ومعاملاتهم، ولذلك اعتنى المحدثون والفقهاء رحمة الله عليهم بهذا الباب، وما من كتاب يتكلم على أحكام الشريعة في العبادات إلا وعقد لهذا المبحث موضعاً خاصاً أورد فيه الأحاديث والأحكام الخاصة به، وهو باب عظيم، وإتقانه ليس من السهولة بمكان بل هو عسير إلا على من يسره الله عليه، ولذلك قال الإمام النووي رحمه الله: إنه من عويص المسائل ومن عويص الأبواب، يعني: من أشدها وأعظمها، ولا شك أن الذي يتقنه يسد ثغرة من ثغور الإسلام، والسبب في ذلك: أن المرأة تلتبس عليها صلاتها، وصيامها، وعمرتها، وحجها، وغير ذلك من عباداتها التي تشترط لها الطهارة، ويلتبس على الرجل حل طلاقه وكذلك إباحة إصابته لامرأته، واستمتاعه بها، وجواز تطليقه وعدم جوازه، وانقضاء العدة وعدم انقضائها، وكل هذه المسائل تتفرع على إتقان باب الحيض، ولذلك لاشك أن طالب العلم ينبغي عليه أن يعتني به، وأن يوليه من العناية والرعاية ما هو خليق به.
وقد ألف العلماء رحمة الله عليهم فيه تآليف مفيدة، وجمعها الإمام الدارمي في كتاب مستقل، وجمعها الإمام النووي رحمه الله فيما لا يقل عن مائتي صفحة، وقال: إنه لم يستوعب شتاتها مع هذا كله، وكتب فيها بعض العلماء خمسمائة ورقة، أي: قرابة ألف صفحة في هذه المسائل، وهو أمر دقيق.
وقد يقول قائل: كيف يكون عسيراً والأحاديث فيه قليلة، وربما أن الإنسان إذا تفرغ له وأتقن أصوله أَلَمَّ به؟ نقول: الواقع بخلاف ذلك، وأحب أن أنبه على مسألة: وهي أن الحيض حينما يبحث فإنه يبحث من وجهين: الوجه الأول: أصول باب الحيض.
والوجه الثاني: الفروع المتعلقة بهذه الأصول فأما الأصول فهي منحصرة ومحدودة، ويمكن للإنسان أن يضبط أحاديثها ولا إشكال فيها، ولكن الإشكال في الفروع، وقد يقول قائل: من أين جاءتنا هذه الفروع التي عُقِّد بها باب الحيض أو وُسّع فيه؟
صلى الله عليه وسلم أنه ينبغي على طالب العلم أن يتنبه إلى أن الحوادث والنوازل والفروع لا تتقيد، ولذلك قد تكون المسائل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة منحصرة، ثم إذا جاءت من بعد ذلك القرون تعددت المسائل؛ لأن مسائل الحيض في القديم -على عهد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة إلى قرابة عصور الخلفاء الراشدين- تجدها على بيئة واحدة، وهي بيئة الجزيرة، فتجدها منحصرة، لكن لما اختلفت البيئات وفتحت الفتوح ووجدت الأجناس، أصبحت مسائل الحيض واسعة، حتى إن بعض أئمة الحديث يقول: في الحيض ما يقرب من مائة حديث، ولهذه الأحاديث ما يقرب من مائة وخمسين طريقاً، وقد جمَعتُ فيها ما لا يقل عن خمسمائة ورقة، ولذلك قال الإمام ابن العربي المالكي رحمة الله عليه: وهي مسائل تأكل الكبد، وتنهض الكتد، ولا يتقنها منكم أحد، فباب الحيض باب عظيم، يقول الإمام أحمد رحمة الله عليه عن هذا الباب: إنه جلس فيه تسع سنوات حتى فهمه.