ألفاظ الطلاق في الماضي والمستقبل

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد: قال رحمه الله تعالى: [باب الطلاق في الماضي والمستقبل].

ذكرنا أن الفقهاء رحمهم الله ذكروا هذه الأبواب والمسائل والفصول والمباحث لوجود الحاجة، فإن الناس تختلف ألفاظهم بالطلاق، فمنهم من يلتزم اللفظ الشرعي الوارد ويتبع المسنون في طلاقه، ومنهم من يتلفظ بالطلاق على وجهٍ بدعي، ومنهم من يتلفظ بالطلاق بألفاظٍ يتأثر فيها بعرفه وبيئته، وعلى هذا لا بد من بيان هذه الأحكام والمسائل لحاجة الفقيه إليها إما للفتوى وإما للقضاء وإما للعلم والتعليم؛ ولذلك فصلوا هذه المسائل ورتبوا أبواب الفقه حتى يكون الفقيه على إلمام بأحوال الطلاق وصوره وألفاظ الناس فيه، فالأصل الشرعي يقتضي أن المسلم إذا تلفظ بالطلاق أنه يؤاخذ به، ونصوص الكتاب والسنة من حيث الأصل تُلزم المطلق بطلاقه، بل وجدنا الشرع يشدد في لفظ الطلاق حتى أمضاه على الهازل، كما ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاثٌ جدهن جدّ، وهزلهن جدّ: النكاح والطلاق والعتاق).

فأثبت عليه الصلاة والسلام أن جد الطلاق جد وأن هزله جد، وعلى هذا قال العلماء رحمهم الله: لفظ الطلاق خطيرٌ شرعاً، والمسلم يؤاخذ به من حيث الأصل العام، حتى أن الشرع التفت إلى ظاهره وأسقط الباطن كما في الهزل.

وعلى ذلك فالأصل يقتضي مؤاخذة الناس في ألفاظ الطلاق، إلا إذا قامت الأدلة على استثناء ألفاظ معينة وعدم مؤاخذة أهلها.

وفي بعض الأحيان يكون اللفظ دالاً على الطلاق دلالةً بينة بالأصل اللغوي والوضع اللغوي فلا إشكال فيه عند ذلك، وتارةً ينصرف عن ذلك بعرف، فيتلفظ الناس بألفاظٍ يعرف بالعرف أنها توجب التأثير في لفظ الطلاق.

وعلى هذا يحتاج الفقيه إلى معرفة الألفاظ التي يعتد بها وتؤثر، واللغة دالة على تأثيرها، والألفاظ التي يظهر أنها لغو وأن من تكلم بالطلاق ونطق بها لا يعتد لفظه ولا يكون طلاقه على الوجه الشرعي ألبتة.

وبناءً على ذلك نحتاج إلى مباحث الطلاق في المستقبل والماضي، فقد يكون الطلاق معلقاً على المستحيل كقوله: إن طرتِ في الهواء، وإن قلبتِ الماء سمناً، إن جعلتِ الحديد ذهباً ونحو ذلك من المستحيلات، كذلك تعليق الطلاق على الأفعال والصفات والأزمنة: إن جاء زيدٌ، إن جاء رمضان، إذا ذهبت إلى أبيك، إذا دخلت دار أبيك، إذا كلمت فلانة ونحو ذلك، كلها أمورٌ لا بد من بحثها فقد عمت بها البلوى، وكثرت منها الشكوى، ووقع فيها الناس على حسب اختلاف فئاتهم وأعرافهم.

وقد استفتح المصنف هذه المسائل بمسألة الطلاق في الماضي والمستقبل، فالمطلق إذا طلق ونجز طلاقه وقال لامرأته: أنت طالق، وسكت فهذا الأصل، وهي طالق، وقد بينا أن التعبير بهذا اللفظ مؤثر وموجبٌ لانحلال العصمة؛ لكن الإشكال إذا أسند الطلاق على وجهٍ مستحيل، فإنه حينئذٍ يكون كمن لم يطلق وكأن الطلاق لم يصادف وجهاً صحيحاً يمضي وينفذ به، فتارةً نصحح الطلاق في زمان إذا أسنده إلى زمان، وتارةً لا نصححه، فهو إذا طلق في الحال فلا إشكال، ولكن إذا قال لامرأته: أنت طالقٌ بالأمس، أنت طالقٌ أمس، فقد أسند الطلاق إلى الأمس، مع أنه في الأمس لم يطلق زوجته، كذلك: أنت طالقٌ قبل يومٍ، أنت طالق قبل أسبوع، أنت طالقٌ قبل شهرٍ، فهذا قد أسند فيه الطلاق على وجه لم يقع فيه الطلاق، ويكون كذباً؛ لأنه لما قال: أنت طالقٌ قبل شهرٍ، أنت طالقٌ قبل سنةٍ، وهي لم تطلق لا قبل شهرٍ ولا قبل سنةٍ ولا قبل ساعةٍ، كان حكاية كذبٍ، وهو اللغو الذي لا يعتد به.

لكن إن قال لها: أنت طالقٌ بعد يومين، أنت طالق إن جاء الغد، أنت طالق إن جاءت الجمعة، أنت طالقٌ إن مِتُّ، أنت طالقٌ إن مرضتُ ونحو ذلك، فقد أسنده إلى المستقبل.

فأصبح عندنا ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن يسند الطلاق إلى الماضي.

والحالة الثانية: أن يسند الطلاق إلى الحاضر والحال.

والحالة الثالثة أن يسند الطلاق إلى المستقبل العاجل.

يقول رحمه الله: (باب الطلاق في الماضي والمستقبل) وسكت عن الحاضر؛ لأن الأصل أن الحاضر يمضي به الطلاق، فلا نبحث في شيءٍ حاضر، ولكن سنبحث في جانبين: إما طلاقٌ مسند لماضٍ وهو شيءٌ قد ذهب، وإما طلاق مسند إلى مستقبلٍ سيأتي.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015