قال رحمه الله تعالى: [وإن طلق عضواً أو جزءاً مشاعاً أو معيناً أو مبهماً أو قال: نصف طلقة، أو جزءاً من طلقة، طلقت].
الحقيقة: أن العلماء -رحمهم الله- والفقهاء أتوا بأشياء ربما أن الشخص يستغرب منها؛ لكن لو وقفت أمام الناس مُفتياً أو قاضياً لجاءتك أمورٌ لا ينتهي فيها العجب، فقد يأتيك شخص يقول لك: قلت لامرأتي: يدك طالق، رجلك طالق، رأسك طالق، فالعلماء يأتون بمسائل -في الحقيقة- قد تظنها غريبة؛ ولكن إذا عشت بين الناس رأيت أن الأمر أكثر من هذا، وأن عند الناس أكثر من هذا، وقد تكون هذه المسائل أصولاً لغيرها، فعندنا مسألة تطليق جزء المرأة.
المطلِّق له حالتان: الحالة الأولى: أن يسنِد الطلاق إلى المرأة -وهذا هو الأصل- كقوله: أنت طالق، زوجتي طالق، امرأتي فلانة، نسائي أو زوجاتي طوالق مني مثلاً، فحينئذٍ أسند الطلاق إلى المرأة ولا إشكال، هذه الحالة الأولى، والطلاق واقعٌ فيها بواحدةٍ أو أكثر على حسب اللفظ، وعلى حسب ما قررناه فيما مضى؛ لكن
Q إذا ذكر جزءاً من المرأة؛ فأجزاء المرأة تنقسم إلى أقسام: فهناك أجزاء يعبر بها عن الكل، وأجزاء أخرى لا يعبر بها عن الكل.
القسم الأول: يذكر جزءاً من المرأة يعبر به عن كلها.
القسم الثاني: أن يذكر جزءاً من المرأة، ولا يعبر به في أصل الوضع عن الكل، إما أن يكون جزءاً مشاعاً كقوله: نصفك ربعك ثلثك، وإما أن يكون معيناً فيقول: يدكِ، رجلكِ، رأسكِ، ظهركِ، وجهكِ، وهذا المعين إما أن يكون مما تدخله الروح وحياته حياة روح، وإما أن يكون من حياة النمو.
فإذاً: الأقسام كالتالي: أولاً: أن يسند الطلاق إلى المرأة، ويسرح المرأة فلا إشكال إذا كان الطلاق للمرأة كلها.
ثانياً: أن يسنده للبعض، وهذا على أقسام.
الأول: البعض الذي يعبر به عن الكل، وهذا يشمل أربعة ألفاظ هي: النفس والروح والذات والجسد، هذه هي المشهورة.
الثاني: البعض الذي يعبر به عن جزءٍ من أجزائها كما ذكرنا، كاليد والرجل والرأس، فينقسم إلى قسمين: إما أن يكون مما يدخله الروح، أو يكون مما لا تدخله الروح.
فنبدأ بالقسم الثاني: أن يذكر جزءاً من المرأة وهذا على قسمين: أحدهما: جزءٌ يعبر به عن الكل.
الثاني: جزءٌ لا يعبر به عن الكل في الغالب.
فإن كان الجزء يعبر به عن الكل، مثل: الجسد، الذات، الروح، النفس، فهذا في قول جماهير العلماء -ويكاد يقارب الإجماع- أنها تطلق، إذا قال: روحك مني طالق، جسدك مني طالق، ذاتك مني طالق، نفسك مني طالق، في هذه الأربعة الأحوال يطلق الكل ولا يتبعض الطلاق، فإذا أسند الطلاق إلى جزء يُعَبَّر به عن الكل غالباً فإنه يسري الطلاق على الكل، ويكون تعبيره بهذا الجزء كالتعبير بالكل.
الحالة الثانية: أن يكون مما لا يعبر به عن الكل، وحينئذٍ إما أن يكون جزءاً مشاعاً معلوماً أو مبهماًً، فيكون جزءاً مشاعاً كما لو قلنا: النصف، أو يكون جزءًا مبهماً كبعضك وجزئك، أو مشاعاً معيناً كقوله: نصفك الأعلى أو نصفك الأسفل، ففي هذه الحالة: إذا أسند الطلاق لجزءٍ مشاع من البدن ولو كان أقل جزءٍ من البدن كقوله مثلاً: عُشر عشرك مني طالق، فإنه يسري الطلاق للكل؛ لأن الشرع لم يجعل في المرأة حلالاً وحراماً، فحكم الله في المرأة إما أنها في العصمة كلها وإما أنها ليست في العصمة، فلما تلفظ بالطلاق فإنه يؤاخذ به كله، كما لو قال لها في الطلاق نفسه: أنت طالق نصف طلقة أو ربع طلقة، صار مؤاخذاً بالطلقة بكاملها، لأن الشرع لم يجزئ زوجة ويجعل نصفها حلالاً للزوج ونصفها حراماً!! ويكاد يكون إجماعاً، على أنه إذا قال لها: نصفك أو ربعك أو ثلثك أو ثلثاكِ أو ثلاثة أرباعك أو تسعة أعشارك طالق فإنها طالقٌ كلها، سواء حدد الجزء المشاع الذي هو المعين أو أبهمه.
الحالة الثانية: وهي التي تحتاج إلى نظر وهي مسألة الأعضاء، وهي تنقسم إلى قسمين: أعضاء حياتها حياة الروح، وأعضاءٌ حياتها حياة النمو.
ولابد من ملاحظة هذه التفصيلات من الفقهاء، وهذا التقسيم مبني على اختلاف الشرع في الحكم على أجزاء الإنسان، فإذا أسند الزوج الطلاق إلى جزء فلابد أن نقف مع هذا الجزء الذي أسند إليه، فأجزاء الإنسان إما أن تكون مما يحلها الحياة وحياتها حياة روح، ويشمل هذا اليد والرجل والرأس والعين والأذن وغيرها من الأعضاء، وإما أن تكون حياتها حياة نمو، وهي التي لا إحساس فيها مثل: الشعر، فلو أحرق طرف الشعر لا يحس الإنسان بالألم ولو احترق طرف شعر المرأة ما تحس بالألم في رأسها، وقد يحترق طرف اللحية والشخص لا يعلم؛ لأنه لا إحساس فيها ولا ألم، فحياتها حياة نمو، وهذه الأجزاء تبين من الإنسان، فالشعر منه ما يقص ومنه ما يحلق ويجز وينتف ويسقط؛ إذ ليس بثابتٍ في البدن ولا باقٍ فيه، وإسناد التحريم إليه ليس كإسناد التحريم إلى غيره مما لا يقبل الانفصال عن الإنسان في الأصل.
وهذا التقسيم يعتبر في كثير من المسائل -سيأتي ذكر بعضها- فالذي حياته حياة روح لا إشكال أنه متصل بالبدن وحكمه حكم المتصل في قول جماهير العلماء وهو كذلك في أغلب المسائل، إلا اليد ففيها كلام عند العلماء رحمهم الله، وذكر هذه القاعدة الإمام ابن رجب رحمه الله في كتابه النفيس: (القواعد): يد الإنسان هل هي في حكم المتصل أو المنفصل؟ لكن بالنسبة للذي حياته حياة نمو -كما قلنا- لا يأخذ حكم حياة الروح من كل وجه، فيزيد أن نبين حكم إسناد الطلاق إلى أجزاء حياتها حياة روح، وإسناد الطلاق للأجزاء التي حياتها حياة النمو.
المسألة الأولى: لو أسند الطلاق إلى عضوٍ حياته حياة نمو، فقال لها: يدك طالق ورأسك طالق وعينك طالق ورجلك طالق وساقك طالق وظهرك طالق وفرجك طالق وبطنك طالق وصلبك طالق فما الحكم؟ جمهور العلماء على -وعلى هذا العمل- أنه إذا أسند الطلاق إلى يدها أو إلى رجلها أو إلى رأسها أنها تطلق كلها من حيث الإجمال، أما الحنفية فاختاروا أربعة أعضاء: الرأس، والبطن، والفرج، والظهر، هذا عند الحنفية، وجعلوها دالّة على الكل، لكن الجمهور لا يفرقون ما دام أن العضو متصل بالبدن، لكن يرد السؤال: كيف حكم بكونها طالقاً كلها؟ هناك مسالك في الاستدلال وهذه المسالك تؤثر في الحكم، فبعض العلماء يقول: نحكم بطلاق العضو أولاً: فلو قال لها: يدك طالق، فالطلاق يتعلق باليد ثم يسري لبقية البدن، وهذا المذهب يسمى عند العلماء: مذهب السريان ويقررون الدليل كالآتي: يقولون: إذا طلق اليد اجتمع الحاظر واجتمع المبيح، فأصبحت المرأة فيها ما حرم الله؛ لأنه أسند الطلاق وعلقه بيدها، وفيها ما أحل الله، والقاعدة: (إذا اجتمع الحاظر والمبيح فالحكم للحاظر، ويحكم بحظر الجميع)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لـ عدي بن حاتم: (إذا أكل الكلب من الفريسة فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه)، فدل على تقديم الحظر على الإباحة، وقال له: (وإن وجدت مع كلبك كلاب غيرك فلا تأكل، فإنك إنما ذكرت اسم الله على كلبك ولم تذكر اسم الله على كلاب غيرك)، فهذه قاعدة لها أدلة كثيرة.
الخلاصة: المذهب الأول يقول: طلقها بالسريان، فيدها تطلق فيجتمع الحاظر والمبيح، ثم يسري الطلاق إلى الكل تغليباً للحظر على الإباحة.
المذهب الثاني: يقول: أراد بالجزء الكل؛ لأن الشرع عبر بالجزء عن الكل، فقال تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد:1]، والمراد: تب جميع أبي لهب، فذكر اليد في المؤاخذة والعقوبة وأنزلها على الكل.
وقال: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، والواقع: بما كسبت جوارحكم وبما كسبتم أنتم كلكم فقال: (بما كسبت أيديكم) فعبر بجزء الإنسان عن كله فدل على أن أجزاء الإنسان إذا تعلق بها تحريم سرى التحريم للكل، وهذا المذهب مذهب الجمع، فيجمع بين العضو المطلق والأعضاء الأخرى في حكم واحد، السؤال: ما هي فائدة الخلاف؟ الواقع هناك فائدة، فلو قال لها: إن دخلت الدار فيدك طالقٌ وقُطعت يدها قبل دخول الدار، لم تطلق على مذهب السريان، وطلقت على مذهب الجمع؛ لأنه حينما قال لها: إن دخلت الدار فيدك اليمنى طالق، وسرقت قبل دخول الدار، أو جاء الطلاق فلم يصادف محلاً، كما لو أسند الطلاق لمنفصلٍ عن البدن؛ لأن اليد صارت منفصلة فالله عز وجل يؤاخذه بلفظ، فبينه وبين الله أنها إن دخلت الدار فيدها حرامٌ عليه، وتطلق عليه؛ فلو قلنا بمذهب السريان وقطعت يدها فليجعل الطلاق حتى مائة طلقة فهي في يدها، لكن البدن انفصل عن هذه اليد المطلقة فلا يسري الطلاق، لكن على مذهب الجمع يكون قوله: يدك طالق، كقوله: كلك طالق، فالفرق بين المذهبين أن الأولين يطلقون الجزء ثم يسري الحكم للكل تبعاً، فإذا وقع الطلاق ولم يوجد الجزء الذي تعلق به الطلاق لم تطلق المرأة، والقول الثاني: أنها تطلق لأن الجزء يراد به الكل.
والحق أن التفصيل أقوى في الترجيح بين هذين القولين؛ فإن قصد باليد الكل وعبر باليد ناوياً الكل فلا إشكال أنه يسري على الكل، وإن كان لم ينو الكل فأشبه القولين مذهب السريان.
المسألة الثانية: إذا علق الطلاق بعضوٍ مما لا تحله حياة الروح كالشعر والسن، فهناك خلافٌ بين العلماء في شعر الإنسان وعظمه كالسن ونحوه هل هو في حكم المتصل أو المنفصل؟ قال الإمام ابن رجب رحمه الله في القواعد: شعر الإنسان هل هو في حكم المتصل أو في حكم المنفصل؟ وجهان، وكذلك السن والظفر والعظم، يعني: هل نحكم بأن شعر الإنسان في حكم المتصل به أو في حكم المنفصل عنه؟ فلو قال: والله! لا ألمسك، ولمس شعرها؛ فإنه لو كان في حكم المنفصل لم يحنث، وإن كان في حكم المتصل حنث، وهكذا إذا قلنا: إن لمس المرأة يوجب انتقاض الوضوء، فإن قلنا: حكم الشعر كحكم المتصل انتقض وضوءه، وإن قلنا: إنه في حكم المنفصل لم ينتقض وضوءه، فهناك جملةٌ من مسائل العبادات والمعاملات متعلقة بهذه القاعدة، ومن أراد المزيد من التفصيل فليراجع كتاب القواعد لـ ابن رجب رحمه الله، فعلى هذا: إذا أسند الطلاق إلى الشعر لم تطلق؛ لأنه في حكم المنفصل فالشعر يحلق ويبين