توجيه العلماء وأئمة المذاهب لقول الرجل لزوجته: أنت علي حرام

مسألة إذا قال لامرأته: أنت عليَّ حرام، أنت حرام، حرمتك، فما الحكم؟! هذه المسألة فيها تفصيل وكلام طويل، فهناك ما يقرب من عشرين قولاً للعلماء رحمهم الله في هذه المسألة التي هي من أطول المسائل، والكلام فيها مستفيض، فقد حكى فيها الإمام القرطبي -من أئمة التفسير- وغيره في كتب أحكام القرآن، وتكلم الإمام ابن القيم رحمة الله عليه، عليها في أعلام الموقعين وفي الهدي أيضاً، وأجاد فيها وأفاد كعادته رحمه الله برحمته الواسعة، وتكلم عليها شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى كلاماً نفيساً، واختار ما رجحه بدليله.

فهذه المسألة من مشهورات المسائل والتي طال فيها الكلام بين العلماء، لكن الذي يهمنا هو ما ذكرته المذاهب المشهورة، والتي هي المذاهب الأربعة ومذهب الظاهرية رحمة الله على الجميع؛ لأن هذه المذاهب في الغالب احتوت خلاف الصحابة، وجعل الله لهذه المذاهب من القبول ما لم يجعله لغيرها؛ لأنها شملت أكثر الأقوال، فقل أن تجد مسألة يخرج فيها الخلاف عن هذه الخمسة الأقوال، وقد يوجد لكن يندثر مع طول الزمان، لكن الله عز وجل أبقى هذه المذاهب واعتنى بها لحكمة يعلمها سبحانه، فلله عز وجل في ذلك الحكمة، وهو أعلم بما جعل لعباده.

فالمقصود أننا نقتصر على المشهور، قال الحنفية: لو أن الرجل قال لامرأته: أنت حرام، علي الحرام، الحلال منك عليَّ حرام.

قالوا: إما أن ينوي طلاقاً أو ينوي ظهاراً أو ينوي يميناً أو ينوي لغواً وكذباً، وفي حكمه ألا ينوي شيئاً.

قالوا: إذا قال: زوجتي حرام، أنت عليَّ حرام، حرمتك، قاصداً الطلاق، سألناه: هل تقصد طلقة؟!! فإن أراد واحدة فواحدة رجعية، وإن أراد طلقتين فاثنتين، وإن أراد ثلاثاً فثلاثاً، وتحرم عليه حتى تنكح زوجاً غيره، هذا إذا نوى الطلاق.

وأما إذا نوى الظهار، فعندهم قولان: قيل: يكون ظهاراً، وقيل: لا يكون ظهاراً.

والخلاف كان بين الإمام أبي حنيفة وأبي يوسف من جهة، ومع الإمام محمد بن الحسن من جهة أخرى، والمذهب مع قول الإمام أبي حنيفة أنه إذا نوى الظهار صار ظهاراً، فإذا قال: أنت عليَّ حرام، يعني: لا أطؤك.

يعني: كظهر أمي، فيحرم وطؤها، ويجعلها كأمه لا يستمتع بها، فإذا نوى ذلك فظهار.

الحالة الثالثة: أن تكون نيته اليمين، فيقول: نويت أن يكون يميناً، فحينئذ تلزمه كفارة اليمين.

الحالة الرابعة والأخيرة: أن يقول لها: أنت عليَّ حرام، أنت حرام، وينوي اللغو أو الكذب، فعندهم فيه وجهان: قيل: إنه لغو مطلقاً، وقيل: لغو، وإن رفع إلى القضاء وقال: ما نويت شيئاً أو قصدت الكذب أو قصدت اللغو، فإننا في هذه الحالة نلزمه أن يحلف اليمين ليصدق قوله، وليس عليه شيء، وهذا حاصل ما ذكره فقهاء الحنفية.

والشافعية وافقوا فقهاء الحنفية في هذا التفصيل، والفرق بين الحنفية والشافعية في الحالة الأخيرة إذا لم ينو شيئاً، فعند الشافعية يُكفر كفارتين، وتنعقد يميناً، وعند الحنفية لا تنعقد شيئاً.

فالشافعية يوافقون الحنفية إلا في مسألة عدم النية.

القول الثالث: قول المالكية، فرقوا بين النكرة والمعرفة.

في التنكير إذا قال: أنت حرام، حرمتك.

فإنه طلاق بالثلاث، وتحرم عليه حتى تنكح زوجاً غيره.

وأما إذا قال: أنت حرام، وهناك عرف، فننظر إلى العرف الذي هو فيه؛ فإن جرى العرف الذي هو فيه أنه طلاق، فيحتسب بحسب ذلك العرف، إن كان رجعياً فطلاق رجعي، وإن كان بائناً فبائن.

وأما بالنسبة للحنابلة رحمهم الله فأقفلوا الباب في المسألة نهائياً، فقالوا: من قال لامرأته: أنت عليَّ حرام، أنت الحرام، حرمتك؛ فإنه ظهار مطلقاً، حتى ولو نوى به الطلاق أو اليمين فظهار.

والذي دعا العلماء إلى هذا الاختلاف كما قرره الإمام القرطبي وغيره من جهابذة العلماء في بيان أن السبب في اختلاف الأقوال وتعددها: أنه ليس هناك نص لا في الكتاب ولا في السنة يبت في هذه المسألة وفي وجوهها، وإن كانت آية التحريم في جانب من الجوانب تقوي بعض هذه الأقوال، لكن بالنسبة لقضاء الصحابة اختلف، فعن علي رضي الله عنه وأرضاه أنه جعل (أنت عليَّ حرام) طلاقاً بالثلاث يوجب البينونة الكبرى، ولا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، والسبب في هذا أنه إذا قال لزوجته: أنت عليَّ حرام، فالمرأة لا تكون حراماً على زوجها إلا بالثلاث.

فهذا قضاء علي رضي الله عنه والخليفة الراشد المأمور باتباع سنته.

أما عثمان رضي الله عنه، فإنه كان يرى أن (أنت عليَّ حرام) ظهار، وسبب هذا الاختلاف راجع إلى الأدلة وفهم النصوص، فليس هذا الخلاف عبثاً، والصحابة من الخلفاء الراشدين الذين أمرنا باتباعهم اختلفوا، فـ علي رضي الله عنه عندما جعله ثلاثاً نظر إلى كلمة (حرام) فالشرع لا يحرم الزوجة إلا بالثلاث؛ لأنه لو قال: واحدة؛ لم تكن حراماً، فهو بينه وبين الله جعل امرأته حراماً، فأخرجها من عصمته كما لو قال لها: أنت طالق بالثلاث، هذا قضاء علي.

فإذا نظرت إلى قضاء علي رضي الله عنه، فإن علياً نظر إلى اللفظ والمتلفظ -الذي هو الزوج- وأما عثمان فنظر إلى المحل، فالمحل -المرأة- تعلقت به صفة التحريم، ولذلك وجد في الشريعة جانبان: تحريم خاص: وهو تحريم الاستمتاع، وتحريم عام وذلك بالتطليق ثلاثاً، فقال: اليقين عندي أن آخذ بأقل التحريم؛ لأن الأصل أنها زوجته، فأقول: أحرم عليك فقط وطأها ويكون ظهاراً، وهو قول عثمان رضي الله عنه وأرضاه، فكلٌ ينظر إلى جانب، إما أن تنظر إلى محل اللفظ، وإما أن تنظر لدلالة اللفظ، فإن نظرت إلى دلالة اللفظ أنه حرمها وأخرجها من عصمته، فلا تحرم ولا تخرج من عصمته إلا بالثلاث، وإن نظرت إلى أن المحل في حكم الشرع تعلق به تحريم، فالشرع يحرمه بالثلاث، ويحرمه بالظهار، وأيضاً يحرمه بالإيلاء، وذلك باليمين.

وقد قضى ابن عباس أنها يمين، ونظر إلى ما يتعلق به التحريم من جهة اللفظ في حلف الرجل المولي فقال: حكمه حكم اليمين، وجعله يميناً.

والحنفية يعملون قول ابن عباس رضي الله عنه في جعله يميناً في بعض الأحوال، ويجعلونه إلى حد الأربعة الأشهر، ويسري عليه حكم الإيلاء من هذا الوجه، هذا بالنسبة لمن قال: إنه ظهار، ومن قال: إنه ثلاث طلقات، ومن قال: إنه يمين.

أما الظاهرية فقالوا: هذا لغوٌ ولا شيء فيه، وما دليل الظاهرية؟ ولماذا قال الظاهرية بهذا؟ قول الظاهرية هو رواية عن ابن عباس، فشركوا الأئمة الأربعة بأن قولهم له أصل أيضاً من الصحابة، وإن كان أصل من قال بالثلاث ومن قال بالظهار أقوى في الصحابة؛ لأن عثمان وعلياً ليسا كـ ابن عباس رضي الله عنه، ولأن منزلة عثمان وعلي في الأمر باتباع سنتهم تجعل رجحان المروي عنهما أكثر من ابن عباس رضي الله عنه.

فالشاهد أن الظاهرية قالوا: إنه لغو، وهو رواية عن ابن عباس رضي الله عنه وقال به بعض أئمة السلف كـ مسروق رحمه الله، واحتجوا بأدلة منها إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) فوجدنا أن قوله: (أنت علي حرامٌ) لا يستقيم مع الشرع ألبتة، فالشرع جعلها حلالاً، وهو يقول: إنها حرام، فقالوا: في هذه الحالة صار من البدع، ومن المعارض للشرع فهو لغو، ووجوده وعدمه على حدٍ سواء، هذا مذهب الظاهرية ومسلكهم.

والذي يترجح -والعلم عند الله- القول بالنية، فإن القول بالنية من القوة بمكان؛ لأن الرجل حينما قال لامرأته: أنت علي حرام، فهناك شيءٌ بينه وبين الله، فإن قصد به الثلاث فثلاثٌ كما قضى علي رضي الله عنه، وإن قصد به الظهار صار للمحل؛ والأصل في الشريعة الرجوع إلى اللفظ والمتأثر؛ وهي زوجته، والله جعل الطلاق له، واللفظ صادر منه، فلا يصار إلى المحل -كما اختار بعض العلماء وبعض السلف رحمهم الله- إلا بعد وجود الشبهة التي توجب الانصراف عن المتلفظ؛ لأن الأصل في الشريعة في باب ألفاظ الكنايات إذا وجدت مسألة خلافية أن ترجع إلى أصلها، (فأنتِ حرام) ليس من الصريح، وإنما هو من الكنايات، وباب الكنايات الأصل فيه النية؛ ولذلك مذهب الشافعية في اعتبار النية في الكنايات هو الذي تطمئن إليه النفس.

وهنا نطبق الأصل الذي رجحناه أننا ننظر إلى نيته فنقول: إذا قال لها: أنت علي حرام، وقصد طلاق الثلاث فكيف نجعله ظهاراً؟ لا يمكن، لأن الرجل فيما بينه وبين الله قصد أن يطلق امرأته طلقة أو طلقتين أو ثلاثاً، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) فنص على أن من نوى الشيء كان له، فنقول: هذا متردد بين الظهار واليمين والتحريم والطلاق ثلاثاً واللغو، فنعتبر نيته.

يبقى

Q إذا كنا نرجح أنه ينظر إلى نيته، لو قال لنا: لا نية لي، فنقول: إن أصح الأقوال في هذا أيضاً مذهب الشافعية أنه يكفر كفارة اليمين؛ لأن الله قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم:1 - 2] فكفر عنه عليه الصلاة والسلام بكفارة اليمين، فدل على أن من حرم يكفر كفارة اليمين إن قصد التحريم الموجب لليمين كما ذكرنا إن نواه يميناً، وإن لم ينوه يميناً بقي موجب التحريم الذي أخذ به عليه الصلاة والسلام وألزم بكفارته.

وهذا حاصل ما يقال في مسألة التحريم، والخلاصة: أن من قال لامرأته: حرمتك أو أنت علي حرام، ولم تكن له نية معينة عند قوله ذلك فالراجح أنه يكفر كفارة يمين، كما يحصل في عرف بعض الناس ويكون معتاداً عندهم أن يقول أحدهم: علي الحرام، زوجتي حرام، أو

طور بواسطة نورين ميديا © 2015