قال رحمه الله: [وإن لم ينوه جاد أو هازل].
قال المصنف رحمه الله: من تلفظ بلفظ الطلاق، فإنه ينقسم إلى أقسام: القسم الأول: من تلفظ بالطلاق مع النية، فهذا جاد، يعني: يريد أن يطلق المرأة فعلاً، وجمع بين الظاهر والباطن، فهذا طلق جاداً.
القسم الثاني: من طلق باللفظ دون النية، وهذا له صور: الصورة الأولى: أن يقصد اللفظ دون نية الطلاق، فهذا يسمى بالهازل، يعني: تلفظ بلفظ الطلاق قاصداً له، مستشعراً أنه لفظ الطلاق، لكن نيته لا تريد الطلاق، فمن تلفظ بالطلاق قاصداً اللفظ غير ناوٍ له، يسمى بالهازل، فتجده يمزح مع امرأته ويظن أن هذا ينفعه، فيقول لها: أنت طالق، فيكون جاء بمادة (طلق) عالماً أنها تفيد الطلاق من حيث الأصل، لكنه لا يريد أثرها ولا يريد أنها طالق، فيقولون: قصد اللفظ ولم ينوه.
ومن هنا: يفرق بين الهازل ومسبوق اللسان بالطلاق: أن الهازل قصد اللفظ، ومسبوق اللسان لم يقصد اللفظ، فمسبوق اللسان أرحم ممن يهزل؛ لأن مسبوق اللسان لم ينو بقلبه ولم يقصد أن يتلفظ بلسانه، فالفرق بين الهازل وبين مسبوق اللسان من جهة قصد اللفظ، فلو أراد رجلٌ أن يقول لامرأته: طلبتك، فقال: طلقتك، فهو لم ينو بقلبه ولم يقصد بلفظه، لكن إذا مزح معها وظن أن أمور الطلاق فيها مزاح، فقال لها: طلقتك، فكلمة الطلاق مقصودة، ومادة (طلق) مقصودة، فاللفظ مقصود، فالشريعة والعلماء يفرقون بين من يقصد اللفظ وبين من لم يقصد.
وبعض العلماء يرى بالنسبة لمسبوق اللسان أنه إن وجدت قرائن قوية على أنه لا يريد الطلاق أن طلاقه لا يقع، كرجل جلس مع امرأته وهو في غاية الانبساط والسرور، وهناك اثنان يشهدان على أنه كان مع زوجته على أحسن ما يكون، ثم طلعت على السلم، فأراد أن يقول لها: أنت طالعة، فسبق لسانه وقال: أنت طالقة، فبساط المجلس يدل على أنه لا يريد الطلاق، ومثل هذا ينفعه، فلو قال للقاضي وثبت بشهادة البينة أو بحلف اليمين على أنه ما قصد؛ فلا تطلق عليه امرأته لا قضاءً ولا ديانةً.
فلما قال بعض العلماء بهذا القول استشكل عليهم الهازل، فالهازل لم يقصد الطلاق، ومسبوق اللسان لم يقصد الطلاق، والشرع يقول: ما دام وجدت كلمة الطلاق فيؤاخذ بها، فردوا عليهم بأن الهازل قصد اللفظ، ومسبوق اللسان لم يقصد اللفظ، فالفرق بينهما واضح.
وبناءً على ذلك: قال رحمه الله: (جاداً)، يعني: تطلق المرأة إن تلفظ بالطلاق وهو جادٌ، أو تلفظ به هازلاً، والهزل: المزح والمرح، فالطلاق جده جد وهزله جد، والأصل في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثٌ جدهن جد، وهزلهن جد: النكاح، والطلاق والعتاق)، وفي رواية: (والنذر)، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يعظ الناس ويبين لهم الأحكام: (أربع جائزات إذا تكلم بهن: النكاح والطلاق، والعتاق والنذر).
فإذا جاء رجل وقال لك: زوجتك ابنتي، وهو يمزح معك، فقلت: قبلت، فحينئذٍ يلزم، وأيضاً لو قال رجل لزوجته: طلقتك، وهو يمزح معها فإنه يلزم بذلك، ولو قال لعبده: أنت حر، على سبيل المزاح، فإنه يعتق عليه، ولو لم يقصد عتقه، وهكذا لو نذرت، والأصل في السنة الثلاث التي سبق التنبيه إليها.
وعلى هذا قال العلماء: إن الهازل تطلق عليه امرأته، وهذا بإجماع العلماء؛ لثبوت السنة بذلك.
وقال بعض العلماء: هنا إشكال، كيف نطلق عليه والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى)، فهو لم ينوِ الطلاق، فكيف نؤاخذه بالطلاق، قالوا: هذا من باب حكم الوضع وليس من باب حكم التكليف، وحكم الوضع: ما جعله ونصبه الشرع من أسباب وعلامات وموانع تدل على الصحة وتدل على الفساد، فكأن الشرع يقول: من تلفظ بلفظ الطلاق، فإننا نؤاخذه به قصد أو لم يقصد، نوى أو لم ينو، فكأنه إذا وجد لفظ الطلاق وجد الطلاق، بغض النظر عن القصد والنية وجدت أو لم توجد.