قال رحمه الله: [فطلق تبعاً لقوله].
أي: وقع الْمُكْرَهْ في الطلاق، (تبعاً).
بمعنى: وقعت هذه الأمور واستوفيت هذه الشروط فطلق (تبعاً لقوله)، يعني: لا يزيد ولا ينقص، وبناءً على ذلك لو قال له: طلق زوجتك تطليقة، فطلقها طلقتين أو طلقها ثلاثاً؛ فإنه يقع عليه الطلاق الزائد، وقيل: يقع جميع الطلاق؛ لأنه لما زاد؛ دل على أنه راغبٌ في الطلاق، وصارت قرينة صارفةً للإكراه.
أيضاً نستفيد من قوله: (تبعاً) أن يكون في طلاقه الظاهر تابعاً للطالب وهو الْمُكْرِه، ولكنه في قرارةِ قلبه غير راضٍ، فإذا طلق وقلبه مطمئنٌ بالطلاق راضٍ به وقع عليه الطلاق.
إذاً يشترط أن يكون تبعاً، وألا يكون منه قصداً، فلو أن رجلاً يكره زوجته -والعياذ بالله- لا يحبها، ولا يرغب فيها، وينتظر الساعة التي ينجيه الله منها، فجاءه رجل وهدده وقال: طلق زوجتك، فقال: الحمد لله على الفرج، ثم طلقها، فهل هذا مكره؟ نقول: لا يكون طلاقه واقعاً بإجماع العلماء؛ لأن الله يقول: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، إذاً معنى ذلك أن ننظر إلى الإكراه في الظاهر لا في الباطن، فيكون طلاقه تبعاً للمكره، وليس مستقلاً بذاته.
قوله: (لم يقع) هذا قول أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين من الأئمة المهديين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال به من الصحابة: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير رضي الله عن الجميع، وبه أفتى مجاهد وطاوس بن كيسان، وعطاء بن أبي رباح، وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية وأهل الحديث رحمةُ الله عليهم: أن من أكره وتحققت فيه شروط الإكراه أنه لا يحكم بطلاقه، ولا يحتسب بتلك الطلقة، واستدلوا بدليل الكتاب والسنة والعقل؛ أما دليلهم من الكتاب: فإنه سبحانه وتعالى قال: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى أسقط عن المكره الردة بالقول، وهي لفظٌ من الألفاظ، وأعظم ما يتلفظ به الردة، قال الإمام ابن العربي وغيره من أئمة التفسير: إن هذه الآية الكريمة أصلٌ في إسقاط مؤاخذة المكره في كل ما يقول ويفعل، فإذا كانت الردة لا تقع وقلبه مطمئنٌ بالإيمان، فمن باب أولى غيرها من الألفاظ، وعلى هذا فالآية الكريمة واضحة الدلالة على أن المكره لا يؤاخذ بقوله، وجاءت السنة تؤكد ما دل عليه القرآن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند ابن ماجة والحاكم وصححه غير واحدٍ من العلماء: (إن الله وضع لأمتي)، وفي روايةٍ: (رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) وفي هذا دليل على أن الله وضع ورفع عن المكره المؤاخذة، فدل على أنه إذا طلق لا ينفذ طلاقه، وأكدوا هذا بما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا طلاق في إغلاق)، رواه الإمام أحمد وأبو داود بسندٍ حسن.
المغلق: هو الشخص الذي استغلق عليه الأمر، فأصبح ليس عنده أي مجال لأن ينصرف عن الشيء الذي هو فيه، فقال بعض أئمة اللغة كالإمام أبي عبيد القاسم بن سلام وغيره من أئمة اللغة رحمةُ الله عليهم: إن هذا يشمل المكره، والإغلاق يحتمل ويشمل من كان مكرهاً؛ لأنه استغلق عليه الأمر، فأصبح لا مجال له إلا أن يطلق فحينئذٍ: (لا طلاق في إغلاق)، وقد استغلق على المكره، وأصبح متلفظاً بلفظ الطلاق بدون اختيارٍ وبدون رضا، ووجود هذا الطلاق وعدمه على حدٍ سواء، ولا يوجب الحكم بالطلاق.
أما دليل العقل: فقد قال العلماء رحمهم الله: لا يقع طلاق المكره، كما لا يقع طلاق المجنون، بجامع عدم وجود القصد والاختيار في كليهما، فالمجنون كما أنه إن طلق لا ينفذ طلاقه، كذلك المكره لا ينفذ طلاقه؛ فإن المكرَه في حكم المجنون، فالمجنون يتلفظ بدون اختيار وبدون شعور وبدون رضا، والمكره يتلفظ بما أكره عليه بدون رضا واختيار، وكلٌ منهما فاسد الاختيار ومنعدم الرضا، فكما لا ينفذ طلاق المجنون فكذلك لا ينفذ طلاق المكره.
وأصول الشريعة تدل دلالة واضحة على رجحان هذا القول.
وقد خالف في هذه المسألة طائفةٌ من السلف منهم سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري، والإمام أبو حنيفة النعمان -على الجميع شآبيب الرحمة والغفران- فقالوا: إن طلاق المكره يمضي عليه، واعتدوا به، واستدلوا بالأصول، وأن الأصل أن من طلق ينفذ عليه طلاقه، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والعتاق)، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أربع جائزات إذا تُكُلّم بهن: النكاح والطلاق والعتاق والنذر)، قالوا: فهذه الأدلة تدل على أن من تلفظ بالطلاق مضى عليه ولو لم يكن قاصداً.
فهم يجعلون الهازل الذي هزل بالطلاق، مؤاخذاً به، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد - وذكر منها-: الطلاق)، فالهازل إذا طلق يمضي عليه الطلاق، مع أنه غير راض وغير مختار للطلاق، فيمضي عليه الطلاق.
قالوا: فدل على أن الشريعة لا تلتفت إلى كونه قاصداً أو غير قاصد، مختاراً أو غير مختار، إنما تلتفت إلى وجود اللفظ، فلفظ الطلاق لفظٌ خطير إذا تلفظ به أُخِذ به.
وهذا القول مرجوح وضعيف؛ لأن هناك فرقاً بين الهازل وبين المكره، فإن الهازل مختارٌ للفظ وطالبٌ له، وراضٍ به؛ لكنه غير راضٍ بالإيقاع، وفرقٌ بين من تلفظ بهذا الشيء راضياً به ولم يرد إيقاعه، وبين من لم يرض ولم يختر وألجئ إليه بدون اختياره، فالفرق بينهما واضح، وعلى هذا فإن طلاق المكره لا يقع، وهو الصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله.