قال رحمه الله تعالى: (من صح تبرعه من زوجة) مما ينبغي أن يعلم أن ميزة الفقه وميزة المتون الفقهية أنها تربط المادة الفقهية بعضها ببعض، فإذا جئت إلى باب الخلع تجد أن الخلع صورته: أن المرأة تدفع المال في مقابل فراق الزوج لها، فإن قلت: الخلع فسخ، فمعناه أنها تطلب أن ينفسخ النكاح بينهما، فيذهب هذا لسبيله وهذه لسبيلها وتتزوج من تشاء، وإن قلت: الخلع طلاق، فمعناه أنها تعطيه المال ليطلقها مقابل هذا المال، والمال الذي تعطيه هو مهرها الذي أمهرها إياه على تفصيل سنذكره -إن شاء الله- من جهة ما تخالع به، فإذا كانت الصورة قائمة على أن المرأة تفتدي، والله تعالى يقول: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة:229]، فكأنها تدفع المال من أجل أن تنفك من عصمة الزوجية، وهنا تجد الترابط بين الكتاب والسنة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول في النساء: (إنما هن عوان عندكم)، والعواني: الأسيرات، فكأنها بالزواج أسيرة، والله تعالى يقول: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة:229]، والفدية تدفع لفك الأسير.
فانظر إلى تعبير النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من الأدب مع الكتاب فتتأدب مع الوحي حتى في الكلمات التي تقولها، وتحاول أن يكون هناك محبة لكتاب الله عز وجل حتى في عباراتك إذا كنت فقيهاً أو عالماً.
وتجد هذا جلياً في كتاب الإمام البخاري رحمه الله، وأئمة الحديث رحمة الله عليهم في تراجم الأبواب، فكتبهم في غاية الأدب مع الوحي، فتجد أئمة الصحاح والسنن إذا ترجم الواحد منهم للباب يذكر لفظ الحديث، وهذا والله عين الأدب مع الكتاب والسنة، فالفقه والعلم إذا كان مربوطاً بالوحي فهو الفقه الصافي، الفقه الذي انبنى على أصل، وعلى حق، وعلى نور من الوحي، ومن الكتاب والسنة، وهذا ما ينبغي على العالم.
فالخلع فيه فدية وفيه مال، فإذا وصفت الخلع بكونه افتداءً، فمعنى ذلك أن هناك مالاً يُدفع، فهو يقوم على كون المرأة تدفع المال، فإذا كانت تدفع المال فإنه ينبغي أن ننظر في هذه المرأة، فإن كانت من جنس من يصح تعامله وتبرعه بالمال صح خلعها، وإن كانت ممن لا يصح بذله للمال فإنه لا يصح خلعها.
فانظر كيفية الارتباط في الأبواب الفقهية، ففي الخلع ارتباط مع باب التبرعات، وباب المعاوضات المالية، وباب الحجر.
فلو كانت محجوراً عليها لسفه فلا يصح خلعها؛ لأنها ممنوعة من التصرف المالي، والخلع يقوم على التصرف المالي، فكما لا يصح بيعها معاوضة لا يصح خلعها معاوضة، فإذاً هذا وجه قول المصنف.
ففقه المسألة: أن الخلع في الأصل قائم على دفع المال من أجل أن تفتدي المرأة من زوجها، ففقهه يقوم على أهلية دفع المال.
وقوله رحمه الله تعالى: (من صح تبرعه من زوجة) (مِنْ) في قوله: (من زوجة) بيانية والأصل أن الخلع يكون من الزوجة لزوجها.
وقوله: (وأجنبي) أي: إذا كان الأجنبي مخالعاً عنها، كولي المجنونة وولي السفيهة.
وقوله: (صح بذله لعوضه) الضمير في (بذله) عائد للشخص المفتدي، والضمير في (لعوضه) عائد إلى الخلع، أي: صح بذله لعوض الخلع، وإذا صح بذله صح خلعه، وإذا لم يصح بذله لم يصح خلعه، فاللفظ له منطوق ومفهوم، فمنطوق العبارة دال على أنه إذا كان الشخص أهلاً للمعاوضة ومثله تصح معاوضته فإنه يصح خلعه، ومفهوم العبارة: أنه إن كان شخصاً لا يصح بذله، ولا يصح تعامله بالمال، كالسفيه والمحجور فإنه لا يصح خلعه.