قال رحمه الله: [أو تأذن المرأة لوليها أن يزوجها بلا مهر].
لأن المهر ملك لها، والله عز وجل نص على أنه حق من حقوقها، فإذا طابت نفسها وقالت: أنا راضية أن تزوجني بلا مهر، فمن حيث الأصل يصح العقد دون تسمية المهر.
المصنف هنا يفرع المسائل على ما تقدم، وكل المسائل في وجود المهر، ولو وقع العقد بدون مهر فإنه يصح، ثم ستأتي الأحكام المترتبة على هذا المهر من نكاح صححناه.
والدليل على أن النكاح يصح بدون تسمية المهر ما ثبت في حديث بروع بنت واشق رضي الله عنها، فإن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه سُئل عن امرأة نكحت بدون أن يسمى لها الصداق ثم توفي عنها زوجها، فقال رضي الله عنه: (أقول فيها برأيي، فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، للمرأة صداق مثلها لا وكس ولا شطط، وعليها العدة ولها الميراث).
فحكم بثلاثة أحكام: (مهر المِثل لا وكس ولا شطط) يعني: تأخذ مهر مثلها من النساء كما سيأتي، دون زيادة ودون نقص (لا وكس ولا شطط) العدل الذي أمر الله به.
(وعليها العدة) التي هي الحداد، أي: عليها أن تحد، فاعتبرها زوجة.
(ولها الميراث) أي ترثه مع أنه لم يدخل بها؛ لأن العقد يوجب أن تكون من نسائه.
فلما فرغ من قضائه قال له معقل بن سنان الأشجعي رضي الله عنه وأرضاه: (والله لقد قضيت فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق امرأة منا).
فأصبح قضاؤه رضي الله عنه موافقاً لقضاء النبي صلى الله عليه وسلم، فهو سنة، وعلى هذا جرى العمل.
الشاهد من الحديث: أنه إذا قضى النبي صلى الله عليه وسلم في المرأة التي لم يفرض لها صداق أن لها مهر المثل بوفاة زوجها فقد أثبت النكاح وصححه، مع خلو العقد عن ذكر المهر، فما سمي المهر ولا حدد، فدل على أن تحديد المهر وتسمية المهر في العقد ليس بشرط في صحته، وهذا موضع الشاهد.
ولذلك جعل الله تعالى هذا الحكم من كونها يكون لها مهر المثل، وهذا عدل، فالعقد من حيث الأصل صحح؛ إذ لا يمكن أن نحكم بمهر المثل إلا في نكاح صحيح، فلو كان النكاح فاسداً لما أثبت لها مهر المثل.
وأيضاً فقد اشترط الله عز وجل في ثبوت التشطير في الطلاق قبل الدخول أن يكون هناك فريضة مسماة، ومفهوم النص أنه لو طلقها من دون أن يسمي لها فإن النكاح موجود، ولذلك أثبت لها المتعة فقال: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:236] فإذا وقع الطلاق قبل المس وقبل التسمية فإنه يكون لها المتعة، والعلماء يقولون: نفي الجناح من الصيغ التي تدل على الإباحة، قال: {إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة:236]، فدل هذا على أنه اعتبرها من نسائه، واعتبر الطلاق طلاقاً صحيحاً، والواقع أنه لم يسمِّ لها مهرها، فدل هذا على صحة النكاح بدون تسمية المهر.
في بعض الأحيان يقولون في العقد: بما اتفق عليه، وهذا غالباً يكون في مسمى متفق عليه بين الطرفين، لكن بعض الناس -أصلحهم الله- يقول: بما اتفق عليه، فيوهم الكاتب أن هناك شيئاً متفقاً عليه، والواقع أنهم لم يتفقوا، وهذا خطأ؛ لأنهم إذا اختصموا إلى القضاء غداً فسيُظن أن هناك شيئاً متفقاً عليه، وأن العقد وقع بعد الاتفاق على شيء، فالمنبغي أن لا يقال: بما اتفق عليه، إلا وقد حددوا واتفقوا على شيء، وهذا أمر ينبغي أن يتنبه له وأن يوضع في الحسبان، أنه لا يقال: بما اتفق عليه، إلا إذا كان هناك اتفاق، أما إذا لم يكن هناك اتفاق، فينبغي أن يصرح بأنها مفوضة، وأنه لم يُسَمَّ لها مهر معين.
قال رحمه الله: [وتفويض المهر بأن يزوجها على ما يشاء أحدهما أو أجنبي].
(بأن يزوجها على ما يشاء أحدهما) قال العلماء: صورة ذلك أن تقول مخاطبة وليها: قبلت نكاحه على أن لي من المهر ما شِئتُ؛ أي: أطالب بالمهر الذي أشاؤه، أو تفوض له وتقول: رضيت نكاحه على أن المهر ما شاء، أي: على أن المهر الذي يأتي به، مثلما يقول: الذي تأتي به، أو الذي تقوله، أو الذي تستطيعه.
هذا كله تفويض للزوج أو للولي، تقول المرأة: رضيت نكاح فلان والمهر ما شِئتَ، تخاطب أباها أو تخاطب أخاها على أنه يتولى المهر بما يراه.
قال رحمه الله: [ولها مهر المثل بالعقد].
ثلاثة أمور: - عندنا عقد.
- وعندنا دخول يعتبر بمثابة الإمضاء والإتمام للعقد.
- وعندنا طلاق أو فسخ أو فرقة قبل الدخول.
هذه ثلاثة أمور ينبغي أن يتنبه لها طالب العلم في مسائل المهور، فالعقد يثبت للمرأة المهر.
وفائدة كونك تقول: لها مهر المثل بالعقد: أنه ممكن أن يتم العقد -والمرأة مفوضة- في زمان، ثم يحصل الدخول في زمان آخر ويحكم لها بمهر المثل، فقد يكون قد عقد عليها العام الماضي ومهر مثلها خمسمائة، وفي هذه السنة يصبح مهر مثلها ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف، فلا بد أن يحدد، فإذا قيل: مهر المثل، يحدد، هل هو بالعقد أو بالدخول؟ فقال رحمه الله: (ولها مهر المثل بالعقد) المثل: الشبيه، يقال: هذا مثل هذا إذا شابهه، وبعض العلماء يقول: هناك فرق بين المثل والشبيه من جهة الصفات.
قال بعض العلماء: ضابط مهر المثل أن يُنْظَر إلى قرابة المرأة وقيل: أن ينظر إلى من هو من أترابها، أي: من لداتها، وأترابها هن النساء اللاتي في سنها بنفس الأوصاف؛ لكن كما يقول العلماء وصرح به غير واحد من الأئمة كالإمام النووي وغيره: أن الركن الأعظم في مهر المثل: النسب، فيُنْظَر إلى نسبها، ففي بعض الأحيان يكون مهر المثل للبكر التي من بيت علم أو من بيت شرف وسؤدد يكون مثلاً: أربعين ألفاً، ويمكن أن يكون مهر المثل لمن هي دونها في النسب: عشرين، وللوسطى: ثلاثين، فإذاً: يُنْظَر إلى مثلها في النسب، ومثلها في الصفات كذلك، فيقال: نسيبةٌ جميلةٌ بكرٌ، بعض العلماء يقول: يُبْتَدأ بقراباتها، فيُنْظَر إلى من تزوجت، فعندما تزوجت أختُها أو تزوجت بنتُ عمتها أو بنتُ عمها أو بنتُ خالها، أي: في نفس نسبها وقراباتها كم كان المهر؟ وجدنا أن قريباتها الجميلة منهن زُوِّجت بأربعين، والوسطى بثلاثين، وقليلة الجمال بعشرين أو بخمسة عشر، فيُنْظَر إلى جمالها، وهذا كله عن طريق النساء.
وعندما يذكر العلماء هذه الضوابط فإنه يُقْصَد منها العدل، ولذلك قال ابن مسعود: (لها مهر مثلها لا وكس ولا شطط) ولا تستطيع أن تصل إلى الذي لا وكس فيه ولا شطط في مهر المثل إلا بالسؤال والرجوع إلى أهل الخبرة.
وكان هذا معروفاً في عصور المسلمين الأولى، وجود النساء من ذوات الخبرة، ودائماً القضاة في كل بيئة يرجعون إلى أهل الخبرة ويختارون -على حسب الأمور- من النساء ومن الرجال مِن أهل الخبرة مَن يوثق في دينه وأمانته وبصيرته وعلمه ويُثنى عليه، فإذا حدثت قضايا مثل هذه يُرْجَع إليهم.
ولذلك كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ربما سأل ابنته حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها عن النساء، ولما نزلت به نازلة غياب الناس عن أزواجهم سأل أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها: كم تصبر المرأة؟ فالرجوع يكون إلى أهل الخبرة وإلى من له علم ومعرفة في مثل هذا.
فيُحكم في مثل هذا بالرجوع إلى أهل الخبرة في السن وفي الأوصاف وفي اللِّدَات والأتراب من أمثالها، ويُنْظَر إلى زمان العقد؛ لأنها استحقت المهر في زمان العقد.
قال رحمه الله: [ويفرضه الحاكم بقدره] فالقاضي يحكم بمهر المثل بقدره، أي: على قدر ما يتفق عليه أهل الخبرة.