بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل اجتماعنا اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وألَّا يجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً.
وفي بداية هذه الدروس أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فإن الله إذا أحب عبداً من عباده رزقه التقوى وجعله من أهلها ووفقه لخصالها وخلالها، وطالب العلم عليه مسئولية عظيمة فيما بينه وبين الله سبحانه وتعالى، وفيما بينه وبين العلم، وأعظم مسئولية بينه وبين الله سبحانه: إرادة وجه الله الكريم، والقصد لما عند الله.
ولو أن طالب العلم في كل مجلس يستفتح مجلسه ويختمه بالوصية بالإخلاص لما كان ذلك كثيراً، فحق الله أعظم الحقوق؛ إخلاص الدين لوجهه وإفراده بالعبادة، وترك الرياء والسمعة وحب الظهور، ويتجه طالب العلم بكليته إلى الله سبحانه حتى يحبه وإذا أحبه وفقه.
وخير ما نتواصى به: أن يجدد طالب العلم في قلبه الإخلاص لوجه الله سبحانه وتعالى، وأن يتفقد ما في سريرته، فإن من أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن أصلح لله سريرته أصلح الله له علانيته، فنسأل الله العظيم أن يرزقنا وإياكم إخلاص القول والعمل.
ستكون دروسنا إن شاء الله تتمة لما مضى من مسائل النكاح، وقد قدمنا بيان جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بمقدمات كتاب النكاح، واليوم إن شاء الله نتم الحديث عن الشروط التي ينبغي توفرها وينبغي وجودها للحكم بصحة عقد النكاح، فالنكاح الشرعي يفتقر إلى صفات وأسباب لابد من وجودها لكي يُحْكَم من خلالها بصحة العقد.
يقول المصنف رحمه الله: [فصل: وله]: أي: لعقد النكاح [شروطٌ]: أي: أمارات وعلامات لابد من توفرها، وهي شروط لصحة عقد النكاح.
[أحدها: تعيين الزوجين]: فلا يصح النكاح حتى يعيِّن الولي الزوجة، ويعيَّن الزوج الذي يريد نكاحها، والمعين ضد المجهول، فلا يصح نكاح المرأة المجهولة، فلو قال له: أزوجك امرأةً، فإن (امرأةً) نكرة، وحينئذٍ تصدق على أي امرأة، وكذلك لو قال له: أزوجك بنتاً من بناتي.
وعنده أكثر من بنت مختلفة الصفات، فإنه في هذه الحالة لا تجيز الشريعة هذا العقد؛ لأنه ربما انصرف ذهن الزوج إلى الجميلة فصرفه الولي إلى من هي أردأ.
في عقود المعاوضات تشدد الشريعة على الجهالة، فلا تجيز العقد بالمجهول، ففي الزواج لابد أن تكون الزوجة معلومة ويكون الزوج معلوماً، فلو قال الولي لجماعة من الناس: زوجت واحداً منكم بنتي فلانة، فقوله: (واحداً منكم) هذا كلام مجهول، فلا يصح العقد على مجهول، ولا ندري من هو، أو قال: زوجتُ بنتي لواحدٍ من أبنائك، وعنده خمسة أبناء، ولم يحدد أحدهم، فإن العقد لا يصح، فلابد من معرفة الزوجة والزوج.
وهذا هو مراده رحمه الله من قوله: (أحدها: تعيين الزوجين)، والتعيين بمعنى أن يعينه؛ ويكون التعيين بالاسم، ويكون بالصفة، ويكون بما يتميز به، فلو كان عند الولي خمس بنات في المجلس، فأشار إلى واحدة منهن وقال: زوجتك بنتي هذه، فهذا يصح؛ لأنه يقع بالإشارة، ويقع بالاسم، ويقع بما يتميز به الشيء.
قال رحمه الله: [تعيين الزوجين، فإن أشار الولي إلى الزوجة أو سماها أو وصفها بما تتميز به]: قوله: (فإن أشار الولي إلى الزوجة).
كأن يقول: هذه -كما ذكرنا- فالإشارة تعيين، كما لو قلت له: أبيعك كتابي هذا أبيعك سيارتي هذه أبيعك بيتي هذا، فالشريعة الإسلامية توجب صرف الجهالة، يعني: في العقود لابد أن يكون المعقود عليه معلوماً لا مجهولاً، فقال رحمه الله: (فإن أشار) الفاء للتفريق، يعني: إذا ثبت هذا فإنه ينبني عليه أنه إذا حصل التعيين إما بالوصف أو بالاسم أو بالإشارة، كأن يقول: زوجتك بنتي المتعلمة، وعنده بنت متعلمة وبنت غير متعلمة، أو يقول: زوجتك بنتي البالغة، وعنده بنت بالغة وبنت صغيرة، فلما قال: البالغة، عيَّن وحدَّد فينصرف العقد إليها.
فإذاً: التعيين يكون بالوصف، وبالاسم، وبالإشارة، ويكون بما يتميز به.
في بعض الأحيان يبهم الولي، ولكن هذا الإبهام ينصرف إلى معلوم، كقوله: زوجتك بنتي.
وليس عنده بنت غيرها، فإنه حينئذٍ نعلم أن مراده فلانة التي ليس له غيرها، فيصح العقد كما لو قال له: زوجتك عائشة، وليس له بنت غيرها.
[أو قال: زوجتك بنتي وله واحدة لا أكثر صح] هذا كما يقولون: المجهول الذي يئول إلى العلم، فعندنا مجهول يئول إلى العلم، وهذا يصح به العقد، ومجهول لا يئول إلى العلم وإنما يبقى على جهالته، فهذا لا يصح، فلو قال رجل عنده بنتان فأكثر: زوجتك بنتي بعشرة آلاف قال: قبلت، لم يصح العقد؛ لأننا لا ندري هل يعني الكبيرة أو الصغيرة، هل يعني الجاهلة أو المتعلمة، هل يعني الصالحة أو غير الصالحة، فيتردد، والشريعة لا تجيز التردد؛ لأن التردد يحدث الخصومات والنزاعات، فلربما أحببت أن تأخذ الأفضل فيقول: إنما زوجتك بنتاً من بناتي فيلزمك أن تأخذ الأردى، وقد تقدم معنا شرح هذا في كتاب البيوع حينما ذكرنا جهالة المبيع، وأن الجهالة سبب من أسباب النزاع، والشريعة الإسلامية أغلقت جميع الأبواب والأسباب المفضية إلى النزاع والخصومة.