قال رحمه الله: [فإن أجاب ولي مُجْبَرَة أو أجابت غير المجبرة لمسلم حَرُم على غيره خطبتها] قوله: (فإن أجاب ولي مجبرة) بعد أن بين رحمه الله مشروعية الخطبة ببيان هذه الأحكام، وبيَّن أحوالها وأحكامها؛ متى تجوز؟ ومتى تحظر؟ وما الذي يحظر من أنواعها؟ شرع في بيان مسألة مهمة، مما تعم به البلوى في مسائل الخطبة؛ وهي مسألة خطبة المسلم على خطبة أخيه، وقد ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (أنه نهى عن خطبة الرجل على خطبة أخيه) فالأصل الشرعي دال على حرمة أن يخطب مع علمه بأن أخاه المسلم قد سبقه في الخطبة، وهذا -أعني: تحريم خطبة المسلم على أخيه- محل إجماع.
وذكر بعض أهل العلم حِكَماً عظيمة في هذا التحريم، منها: أن مقصود الشرع أن يجتمع شمل المسلمين، وأن يتآلفوا وأن يتراحموا ويتعاطفوا، وهذا هو الذي يقصد من كثير من شرائع الإسلام، ولذلك من تأمل أحب الأعمال إلى الله وأزكاها عند الله عز وجل بعد الشهادتين وهي: الصلاة، وجدها صلاةً مع الجماعة، تنتظم التآلف والتعاطف والتكاتف وكأنهم كالجسد الواحد.
وهذا المقصود الشرعي من الاجتماع، وقد دعا إليه بالترغيب فيه والتأليف فيه، ونهى عن ضده، حتى حرم بيع المسلم على بيع أخيه؛ لأن بيعه على بيعه يقطع أواصر الأخوة، ويحدث الشحناء والبغضاء، وحرم بيع الغرر ونحو ذلك من البيوع التي وردت السنة بتحريمها، مما يُقْصَد منه دفع الشحناء والبغضاء بين المسلمين.
كذلك في كتاب النكاح، جاءت هذه الصورة من الحكم الشرعي لكي تبين أن مقصود الشرع أن يجتمع شمل المسلمين، وألَّا تكون هذه المقاصد الدنيوية وسيلة، وإن كانت فيها معانٍ شرعية من وجوه؛ لكن ينبغي ألَّا تكون وسيلة لقطع أواصر الإسلام ووشائج المحبة بين المسلمين، ثم إن هذا الحكم من العدل الذي قامت به السموات والأرض، فالسابق له حقه في السبق، فإذا جاء الثاني من بعده أفسد عليه، وكذلك ضيع حقه في السبق، فإذا علم المسلم أن أخاه قد تقدم فلا يخلو من أحوال: الحالة الأولى: أن يجاب الخاطب الأول، فإن أجيب بالرغبة فلا يجوز بإجماع العلماء أن يتقدم الثاني، وإن أجيب بالنفي فبالإجماع يجوز للثاني أن يخطب، وأصبحت الخطبة الأولى وجودُها وعدمُها على حدٍ سواء، وإن تُوُقِّف في الرجل لكي يسأل عنه، فهذا ظاهر النص أنه لا يجوز حتى يستقر الأمر، وقال بعض العلماء: يجوز لحديث فاطمة رضي الله عنها وأرضاها، حيث جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت أن أبا الجهم ومعاوية بن أبي سفيان قد خطباها، فقال صلى الله عليه وسلم: (أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو الجهم فرجل لا يضع العصا عن عاتقه، انكحي أسامة) فخطب لها عليه الصلاة والسلام مع وجود خطبة معاوية وأبي الجهم قالوا: إنه لم يحصل فيها ركون، فوقعت خطبتان ولم يستفصل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فهذان وجهان مشهوران لأهل العلم، وأستأذن سماحة الشيخ أن يرجح في هذه المسألة.
- ما رأيكم يا شيخ! في هذه المسألة؟ - ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أشار عليها بـ أسامة ولم يخطبها له.
- نعم.
- ولكنه رأى لها أن تقدم أسامة، وأسامة لم يخطب على خطبة أبي جهم ولا معاوية، فكان هذا على نيته وهذا على نيته، ولا يوجد دليل على أن واحداً خطبها وهو يعلم بخطبة الآخر، كل واحد خطبها على ما أراد، ولم يعلم بخطبته أحد.
- جزاكم الله خيراً، حفظكم الله، ترون أنه يبقى الأصل الشرعي من عدم جواز الخطبة على الخطبة؟ الشيخ ابن باز: ما فيه شك، وهذا هو الأصل.
- جزاكم الله خيراً.
الشيخ ابن باز: ومن ظن أن النبي خطبها لـ أسامة فقد غلط، أسامة خطب مع الخاطبين؛ ولكن النبي صلى الله عليه وسلم رجَّح لها أسامة يعني: أشار عليها بـ أسامة.
- جزاكم الله خيراً، الله يحفظكم.