بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب النكاح].
النكاح في اللغة: يُطْلَق بمعنى الجمع والضم، ومنه قول العرب: تناكحت الأشجار إذا اجتمعت ودخل بعضها في بعض، والمناسبة من هذا المعنى اللغوي ظاهرة؛ لأن النكاح يقوم على الاستمتاع الموجب لاجتماع الزوجين وارتباط كلٍّ منهما بالآخر.
وأما في اصطلاح الشرع، فإن معنى النكاح اختلفت عبارات العلماء رحمهم الله فيه، ومن أنسب ما عُرّف به النكاح: أنه عقد يفيد حل استمتاع كل من الزوجين بالآخر، وبناءً على هذا فقول العلماء: (عقد) المراد به الإيجاب والقبول، والإيجاب أن يقول ولي المرأة مخاطباً الزوج: زوجتك بنتي فلانة، والقبول أن يقول الزوج: قبلت، أو قبلت نكاح فلانة.
وقولهم رحمهم الله: (عقد يفيد) الفائدة: ما يعود من الشيء، ومعنى ذلك: أن عقد النكاح ينشأ عنه ويترتب عليه حل استمتاع كل من الزوجين بالآخر.
وقولهم رحمهم الله: (حل استمتاع) لأن الأصل أنه لا يجوز للرجل أن يستمتع إلا بما أحل الله أن يستمتع به من المرأة المنكوحة أو ملك اليمين.
قولهم: (حل استمتاع كل من الزوجين) الاستمتاع من المتعة، والمتعة تشمل الشيء الذي فيه اللذة سواء كانت متعلقة بالبصر أو متعلقة بالجوارح الأُخر، وقولهم: (استمتاع) يشمل جميع أنواع الاستمتاع التي هي المقدمات من التقبيل ونحوه، وغاية المتعة من الجماع، فالكل أحله الله عز وجل للزوج، ولذلك قال الله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187]، فهذا العقد الشرعي والرباط الذي أذن الله به للزوجين يفيد حل استمتاع كل منهما بالآخر، فالمرأة تستمتع بالرجل والرجل يستمتع بالمرأة.
وهذا النوع من العقود دل على مشروعيته دليل الكتاب والسنة والإجماع.
أما دليل الكتاب فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] فندب الله عباده إليه، ودلت الآية الكريمة على أن النكاح مأذون به شرعاً، وقال سبحانه: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32] والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وأما دليل السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج)، فقوله: (فليتزوج) أصل يدل على مشروعية النكاح والإذن به، وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس وغيره: (تزوجوا الودود الولود فإني مفاخر بكم الأمم)، وكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه فعل النكاح فتزوج عليه الصلاة والسلام، وأقر الصحابة على الزواج فاجتمعت دلالة السنة قولاً وفعلاً وتقريراً.
وأما بالنسبة للإجماع: فقد أجمعت الأمة على مشروعية النكاح وحله وجوازه، ولا خلاف بينهم بحمد الله في ذلك، وأما الحكمة أو الحكم التي يمكن أن تستفاد من هذا العقد الشرعي، فإن الله تعالى شرع النكاح وجعل في شرعيته تكثير سواد الأمة وإبقاء النسل البشري، فعن طريق النكاح يتكاثر الناس ويتناسلون بالذريات والأولاد والأحفاد، فيبقى النسل ولا ينقطع، وبقاء النسل عمارة للكون بطاعة الله عز وجل كما لا يخفى.
كذلك في النكاح إعفاف للرجل وإعفاف للمرأة عن ما حرم الله، وصيانة لهما عن الزنا ونحوه من المحرمات، فشرع النكاح لهذه الحكم العظيمة، وتتبعها آثار هي حكم جليلة؛ منها: أن الناس يتواصلون وتحدث بينهم الألفة والمحبة والصفاء والنقاء، وهذا يقوي أواصر الإسلام، ويوجب ارتباط المسلمين بعضهم ببعض، فإن الرجل يتزوج فيُغرب في نكاحه، فيتزوج امرأة من قبيلة غير قبيلته أو امرأة من مصر غير مصره، وحينئذٍ يتعلق المسلم بأرحام له في ذلك البلد، ويتعلق أهل ذلك البلد بأرحام لهم في بلد آخر، فترتبط جماعة المسلمين وتحصل بالنكاح أواصر المحبة والألفة ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إنكم ستفتحون أرضاً يذكر فيها القيراط -يعني مصر- فاستوصوا بأهلها خيراً فإن لهم رحماً).
فالمقصود: أن هذا الرحم يوجب الألفة والمحبة والتواصي بالخير، ومقصود الإسلام: أن يتواصل المسلمون وأن يتراحموا، وأن يتعاضدوا، وأن يكونوا كالبيت الواحد وكالجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، ومن هنا إذا حصل التعدد وتزوج الرجل من أكثر من قبيلة ومن أكثر من جماعة أصبح البيت الواحد يقوم على بيوت، ولو وقعت بلية أو مصيبة في بيت من هذه البيوت تألم الجميع وكأنه بيت واحد وكأنه أسرة واحدة.
وكذلك أيضاً من حكم النكاح: أنه كفاية للمئونة، فإن الرجل إذا تزوج المرأة كفى أباها أن يعيلها وأن تكون عبئاً عليه، خاصة وأن الأب في آخر عمره يثقل عليه أن يقوم على بناته وأن يرعاهن، أو يرعى أولاده، ففي ضم هذه البنت وضم تلك البنت لاشك أنه تخفيف للأعباء والمئونة إلى غير ذلك من الحكم العظيمة والأسرار الكريمة، فإن الزوج تسليه زوجته وتواسيه، وتخفف عنه الأشجان والأحزان، وإذا كانت صالحة ثبتته على الصراط وقوت قلبه على الطاعات، فاستفاد خيراً كثيراً لدينه ودنياه وآخرته.
هذا العقد -وهو عقد النكاح- اختلفت أنظار العلماء إليه، وتكلموا على حكمه، فقالوا: هل النكاح واجب أو مندوب؟ على قولين مشهورين: جمهور أهل العلم من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وطائفة من أهل الحديث رحمة الله على الجميع على أن النكاح ليس بواجب وأنه مندوب ومستحب، وهذا في حالة الاعتدال كما سيأتي.
وذهب فقهاء الظاهرية رحمهم الله إلى القول بوجوب النكاح، وأنه يجب على الرجل أن ينكح على الأقل واحدة، ثم من بعد ذلك يبقى نكاح الاثنتين والثلاث والأربع على سبيل الندب والاستحباب لا على سبيل الحتم والإيجاب، واستدل الظاهرية على قولهم بوجوب النكاح بدليل الكتاب والسنة.
أما دليل الكتاب: فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3] ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة قالوا: إن الله أمر، والقاعدة في الأصول: أن الأمر محمول على الوجوب حتى يدل الدليل على صرفه عن هذا الظاهر، فأمرنا الله أن ننكح فأصبح النكاح واجباً لازماً علينا، واستدلوا بقوله تعالى أيضاً: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور:32] قالوا: هذا أمر والأمر يدل على الوجوب ولا صارف له عن ظاهره.
واستدلوا بالسنة في قوله عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج) ووجه الدلالة من الحديث أن النبي صلى لله عليه وسلم قال: (فليتزوج) وهذا أمر والأمر للوجوب، كذلك أكدوا هذا بقوله عليه الصلاة والسلام: (تزوجوا الودود الولود)، وفي رواية لحديث آخر: (تناكحوا تناسلوا) لكنه متكلم في سنده، والحديث رواه عبد الرزاق في مصنفه، وكذلك الإمام أبو حنيفة في مسنده، وله روايات في مصنف ابن أبي شيبة وغيره بلفظ: (تناكحوا تناسلوا) وفي رواية (تناكحوا تكثروا)، وفي رواية: (تناكحوا تكاثروا فإني مفاخر بكم الأمم)، وفي رواية: (فإني مباهٍ بكم الأمم) هذا الحديث كما ذكرنا أخرجه عبد الرزاق في مصنفه وابن ماجة في سننه، وكذلك أخرجه الديلمي في مسنده؛ مسند الفردوس، وأكثر طرقه ضعيفة لكن رواية: (تزوجوا الودود الولود) قالوا: هذا أمر لقوله عليه الصلاة والسلام: (تزوجوا) ففيه حث بالغ يقوي جانب الأمر.
أما الجمهور فإنهم قالوا: إن النكاح ليس بواجب، وهذه الأوامر الواردة في الكتاب والسنة ليست على ظاهرها، فإن قوله سبحانه: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3] قالوا: إنه ليس للوجوب بدليل قوله: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3]، فلو كان أمراً للوجوب لوجب أن ينكح اثنتين وثلاثاً وأربعاً، ولكن الله قال: {فَانكِحُوا} [النساء:3] وجعل الأمر مرتبطاً بالمثنى والثلاث والرباع، فدل على عدم إرادة الوجوب والفرضية، كذلك أيضاً كأنهم يقولون: إن في الآية قرينة تدل على عدم الوجوب؛ لأنه أمر بالتثنية والتثليث، وكونه تكون عنده أربع وهو الحد الأقصى للنكاح فهذا كله على سبيل الندب والاستحباب عند الجميع، فدل على أن الأمر في قوله: {فَانكِحُوا} [النساء:3] للندب والاستحباب وليس للحتم والإيجاب.
أما قوله عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر) قالوا: إن في الحديث قرينة تدل على عدم الوجوب وهي قوله: (فإنه أغض) فإن (أغض) على وزن أفعل التفضيل، وأفعل التفضيل لا يدل على الوجوب؛ لأن المطلوب أن يغض بصره، فإذا صار النكاح أغض كأنه يحصل الواجب وهو غض البصر بما دون النكاح، وعلى هذا قالوا: إنه أمر للندب والاستحباب لا للحتم والإيجاب.
وهذا هو الصحيح: أن النكاح مستحب ومندوب إليه في حالة الاعتدال، وهي الحالة التي يسميها العلماء: انتفاء الدوافع وانتفاء الموانع، وقد قرر العلماء وهم الجمهور أن النكاح تعتريه الأحكام الخمسة؛ فيكون واجباً في حالات، ويكون مندوباً في أُخر، ويكون محرماً في أُخر، ويكون مكروهاً في أُخر، ويكون مباحاً في أُخر.
فيكون النكاح واجباً إذا كان الشخص يخاف على نفسه الزنا، وغلب على ظنه أنه إذا لم يتزوج وقع في الحرام، وعنده قدرة على النكاح؛ فهذان شرطان: أن لا يأمن الحرام، وأن تكون عنده القدرة أن يتزوج، ووجه الوجوب هنا أنه فرض عليه أن يمنع نفسه عن الحرام، وواجب عليه أن لا يتسب