Q في الحكم على مسألة بأنها من قول جمهور العلماء: ما هو أقل عدد يُطلق عليه هذا اللفظ؟
صلى الله عليه وسلم المسائل الخلافية تنقسم إلى أقسام: القسم الأول: أن يكون الخلاف بين الأئمة أنفسهم، أي: الأئمة الأربعة، ويُضاف إليهم مذهب الظاهرية.
القسم الثاني: أن يكون الخلاف بين أتباع الأئمة، بمعنى: أن المسألة جدَّت وطرأت، فليس لأئمة المذاهب فيها قول.
القسم الثالث: أن يكون الخلاف بين بعض الأئمة، وليس هنا نص عن الأئمة، وإنما خالف أصحاب الإمام فيها.
وتوضيح ذلك: إذا كان الخلاف بين الأربعة فالثلاثة جمهور والواحد خارج عنهم، فلا يُعتبر من الجمهور، فإذا قيل: وهذه المسألة تصح على قول الجمهور خلافاً للإمام أبي حنيفة، فتَعلم أن الثلاثة يقولون بهذه المسألة، وإذا قيل: تصح هذه المسألة في قول الجمهور إلا الشافعي، فتفهم أن الذي خالف إنما هو الإمام الشافعي رحمه الله.
إذاً: الجمهور يطلق على الثلاثة، ولا يُطلق على اثنين في مقابل اثنين، فلو كانت المسألة -مثلاً- بين الشافعي وأحمد من جهة، والإمام مالك وأبي حنيفة من جهة أخرى، فلا يقال فيها جمهور.
هذا بالنسبة للخلاف بين الأئمة، وبعض العلماء يعتبر المسألة فيها جمهور إذا تكافأ اثنان في مقابل اثنين، وانسحب أحد أصحاب الاثنين مع الطرف الثاني، فإذا كان أصحاب الإمام أبي حنيفة لا يوافقون إمامهم ويرجحون المذهب الشافعي والحنبلي؛ فيقال لمذهب الشافعية: جمهور؛ لكنه لا يخلو من نظر، وقد يُعبّر به في بعض الأحيان عند بعض طلاب العلم الذين عندهم دقة وعناية، أو يستشهد بهؤلاء تعزيزاً للقول فيقال في الترجيح: حتى إن أصحاب الإمام أبي حنيفة يميلون إلى كذا.
هذا بالنسبة لمسألة الخلاف بين الأئمة الأربعة أنفسهم، فإذا وقع الخلاف بين أصحاب الأئمة الأربعة فنفس المسألة كما تقدم، فإذا قيل: وبه يقول الإمام أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، فهذا خلاف الأئمة أنفسهم، وإذا قيل: وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، فلا يستلزم أن يكون هناك نص للإمام، فينتبه طالب العلم، إذا قيل: وهو قول الإمام أبي حنيفة ومالك، فالمسألة عن الإمام نفسه، وهي مسألة في القرون المفضلة، وإذا قيل: وهو قول الحنفية؛ فهذا لا يستلزم أن تكون في القرون المفضلة، بل ربما طرأت أو وجدت بعد القرون المفضلة.
وعلى كل حال: فإذا كان الثلاثة من المذاهب في مقابل واحد فهم جمهور، وإما إذا كان بعض الخلاف منوعاً، كما لو لم يكن هناك نص عن الإمام مالك في المسألة، ولا عن الإمام الشافعي، وهناك نص عن الإمام أبي حنيفة وأحمد، فيقع الخلاف بين الإمام أبي حنيفة وأحمد مع أصحاب الشافعي ومالك، فإذا انسحب أصحاب أحدهما إلى أحد القولين فهي جمهورية، فتقول: وهو قول الإمام أحمد وأبي حنيفة وأصحاب الشافعي؛ فحينئذٍ تصير جمهورية، ويكون قول المالكية قولاً منفرداً إذا اختاروا خلاف هؤلاء الثلاثة.
وعلى كل حال: ينبغي التورع في نسبة هذه المذاهب، ولا يتناول أحد نسبة الأقوال إلى المذاهب إلا إذا درس الفقه على أئمة وعلماء لهم يد وباع في مثل هذا، ولا يقتصر على قراءة الكتب، والنسبة أمر يحتاج إلى التنبيه إليه؛ فإن الأوهام تقع في نسبة الأقوال للأئمة ونسبة الأقوال لأصحاب المذاهب، ولذلك من أصعب ما يمر على المفتي إذا كان يخاف الله عز وجل تحرير قول على مذهب.
فمن أصعب ما يقال أن يقال لك: ما قول الشافعية أو الحنابلة؟ فإنك تسأل أمام الله عز وجل عن مذهبهم كاملاً، وهذا شيء تشيب فيه رءوس أئمة المذاهب أنفسهم، فضلاً عن إنسان لم يُحصِّل، فلا بد أن يكون على علم بالمصطلحات التي هي داخل المذاهب، وأن يكون على علم بالطرق والمناهج التي توصل بها إلى المذهب، من ناحية قواعده وأصول المذهب.
فهذا أمر يحتاج إلى دراسة معمقة، وهو الذي يسمى: الاجتهاد المذهبي؛ لأن الاجتهاد إما أن يكون مذهبياً داخل المذهب؛ فمثلاً: شيخ الإسلام رحمه الله تجده يقول: (وهذه المسألة أصول الإمام أحمد تقتضي فيها الجواز)، فلم يقل: إن الإمام أحمد يقول: إنها تجوز، بل قال: (أصول الإمام أحمد).
وفي بعض الأحيان يقول: وهذه المسألة تجري على قول أصحاب الإمام أحمد، ففرق بين الإمام وبين الأصحاب؛ لأنه عايش الفقه، وبدأ فيه بالمذهب دون تعصب، وبالدليل، تقرؤه وتضبطه، ثم بعد ذلك تنظر في دليله، ثم بعد ذلك تنظر فيمن خالفه، وتتحرى الحق والصواب حتى تصل إلى ما هو أقرب وأوفق لشرع الله عز وجل وصراطه.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهدينا إلى الحق فيما اختلفوا فيه، وأن يرزقنا محبته والعلم به والعمل به، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.