قال رحمه الله: [ومن أوصي له بمعين فتلف بطلت].
عند العلماء: المعين والموصوف في الذمة، وهذا من أروع ما تميزت به هذه الشريعة الإسلامية، التي جاءت بتشريعات وأحكام ومسائل وافية شاملة عامة كاملة، وهذا من أعجب ما يكون، أن الشريعة دخلت حتى في تفصيلات العقود، فتفرِّق بين التعيين والوصف في الذمة.
والعلماء يقسمون الأشياء في العقود إلى: معين، وموصوف في الذمة.
فأنت إذا بعت، أو أجّرت، أو وهبت، فإما أن يقع عقدك على معين، أو موصوف في الذمة، فالمعين كأن تقول له: بعني بهذه العشرة، فهذا معين، فلو تلفت العشرة فسد البيع، ولا يقام غيره إذا كان المبيع على معيّن يفوت بفواته، هذا إذا تم التعاقد على معين يفوت بفواته، وفي الإجارة على مركوب معين، فلو قال: استأجر امرأة لترضِع طفلاً معيناً، ثم أصيب هذا الطفل بمرض وتعذَّر إرضاعه؛ انفسخت الإجارة.
وكذلك لو استأجر داراً وقال: أؤجرك هذه العمارة، وهذه كلها معينات، وبناءً على ذلك: لو جئت تشتري كتاباً، وقلت له: بكم تبيعني هذا الكتاب؟ فقال: بعشرة ريال، ثم دفعت العشرة الريال وخرجت من المكتبة فوجدت الكتاب قد طُمست منه صفحة أو صفحتان، فرجعت إليه، وقلت له: هذا الكتاب فيه صفحة مطموسة أو صفحتان، وهذا عيب يؤثر، فرُد لي العشرة، فقال: لن أرد العشرة ولكن سأعطيك بدلاً منه؛ فهنا ليس من حقه أن يعطيك بدلاً منه؛ لأن البيع وقع على معين يفوت بفواته، لكن لو قلت له: أعطني نسخة من بداية المجتهد، أو من زاد المستنقع، فقال لك: بعشرة ريال، فجاءك بنسخة ووجدت فيها عيباً، ولو كانت كلها مطموسة الصفحات، فقلت له: أعطني العشرة، فهنا لا تملك إلزامه؛ لأن البيع كان على موصوف في الذمة، ومن حقه أن يأتي ببديل عن الذي اشتريته.
إذاً: العقود إما أن تكون على شيء معين يفوت العقد بفواته، وإما أن تكون على موصوف في الذمة.
وهنا في الوصية يبحث العلماء في محل الوصية في المعين والموصوف، فحينما يقول: أوصيت بعمارة، وذكر أوصافها، فهذا وصف يصدق على كل عمارة تتحقق فيها هذه الأوصاف التي ذكرها الموصي، أما لو قال: وصيت بهذه السيارة، وهذه السيارة دون الثلث، ثم شاء الله عز وجل عندما توفي أن تلفت السيارة؛ فعند ذلك تبطل الوصية، وإن قال: وصيت بهذه الشاة، فلما توفي ماتت الشاة، فحينئذٍ تبطل الوصية؛ لأنه يستحيل تنفيذ الوصية؛ فحينئذٍ تبطل وتفوت بفواته، وهذا هو معنى قوله: (بمعيّن).
وهذه المسألة قد حُكي الإجماع عليها، وممن حكى الإجماع عليها الإمام ابن المنذر رحمه الله، ونَقَل هذا عن الإمام ابن قدامة رحمه الله، وغيرهم من الأئمة، حيث قال: أجمع كل من نحفظ عنه العلم -يعني: من الأئمة والعلماء رحمهم الله جميعاً برحمته الواسعة- أن الوصية بالمعيّن إذا تلف فاتت بفواته.
أي: يُحكم ببطلانها.
قال رحمه الله: [وإن أتلف المال غيره فهو للموصَى له إن خرج من ثلث المال الحاصل للورثة].
يعني: إذا وصَّى بسيارة لمعيَّن صحّت الوصية، وإذا تلفت هذه السيارة فاتت الوصية بفواتها.
وفائدة هذه المسألة الأولى التي ذكرنا فيها الإجماع: أنه لو تلفت السيارة وقال الموصَى له: أريد بدلاً عنها؛ لأن الميت وصّى لي، وقد تلفت السيارة، فأعطوني بدلاً عنها؛ لم يكن من حقه ذلك؛ لأنه وصّى له بمعين فات بفواته.
والعكس: فلو وصَّى له بسيارة، وكانت السيارة دون الثلث أثناء الوصية، ثم لما توفي الموصي أو قبل وفاة الموصي، وهناك أموال غير السيارة، فشاء الله عز وجل أنه توفي عن مزرعة والسيارة، فالسيارة قيمتها تعادل الثلث من المال، فمثلاً: قيمة المزرعة مائة ألف، والسيارة قيمتها خمسون ألفاً، فالسيارة تعادل ثلث المال، فعند ذلك صحت الوصية ومضت؛ لكن أراد الله عز وجل أن احترقت المزرعة أو تلفت، فأصبحت قيمتها عشرة آلاف ريال، أو تلفت بالكلية فلم تساو شيئاً، فأصبح حينئذٍ لا يوجد إلا السيارة، فحينئذٍ يكون له ثلثها، ولا يدخل عليه الضرر -من حيث الأصل-، لكن لا يؤثر فوات المال من غيره على الموصَى به، فلا يفوت الوصية كلها؛ لأن تلف غيرها ليس تلفاً لها بعينها، وحينئذٍ تبقى الوصية في المعين كما هي.