بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الموصى به].
شرع المصنف رحمه الله في هذا الباب في بيان ما يتعلق بالشيء الموصَى به، ويعتبر هذا الشيء ركناً من أركان الوصية؛ لأن الإنسان يعهد بالشيء إلى غيره، وهذا الشيء منه ما تصح الوصية به، ومنه ما لا تصح الوصية به.
فنظراً لاختلاف حكم الشرع فيه؛ ناسب أن يعقد المصنف رحمه الله له باباً مستقلاً، فيبيّن ما هي الشروط التي ينبغي توفرها في الشيء الذي يُوصَى به، ومن عادة الشريعة أنّها تُفرِّق في محل العقود، فالموصَى به مَحَلٌ للوصية، كما أن الشيء المَبيع محل لعقد البيع، والشيء المؤجر محل للإجارة، والشيء الموهوب محل للهبة.
فتارة تُشدد الشريعة في الأشياء التي هي محل للعقود، وتشترط شروطاً لابد من توفرها للحكم بصحة عقودها، وهذا التشدد من الشريعة قَصَدت به حفظ الحقوق للناس، فلا تقصد به تضييقاً عليهم، ولا تعسيراً في تشريعاتها لهم، وإنما قصدت حفظ الحقوق، فالشيء المبيع له شروط، والشيء المؤجر له شروط، والشيء الموهوب، والشيء الموصَى به، كل ذلك له شروط معينة.
فتارة تكون الشروط قوية -كما ذكرنا- وتارة تكون خفيفة، والموصَى به أمره خفيف، والشرع يخفف في شروطه، والعلماء رحمهم الله يبينون جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بهذا الشيء الموصى به، ويظهر من خلال هذا البيان أن الشريعة قصدت التوسعة، والسبب في هذا: أن يعلم طالب العلم أن الشيء الموصَى به في الغالب أشبه بالهبة، والشخص إذا وهب الشيء فهو محسن متفضل، والله تعالى يقول: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة:91].
فلك أن توصي بالقليل، ولك أن توصي بالكثير، ما دام أنه دون الحد الذي حده الشرع، ولك أن تزيد عن هذا الحد إذا سامح أصحاب الحق -وهم الورثة- فأجازوا وصيتك.
والمقصود: أن الشيء الذي يُوصَى به تارة يكون مأذوناً بالوصية به، وتارة يكون غير مأذونٍ به.
فهنا يتكلم العلماء رحمهم الله على الأشياء التي يكون من حق الإنسان أن يُوصِي بها، فإذا تضمنت الوصية بالشيء ما يقصده الشرع من حصول المحبة، وحصول البر والإحسان والصلة والرفق، أجازت الشريعة الوصية، وإذا تضمن الشيء الموصَى به ما يكون وسيلة لحرام، أو يكون وسيلة إلى غرض يهدم أصول الشريعة أو يعارضها؛ فحينئذٍ لا تجوز الوصية، فلو وصَّى بكتبٍ محرمة، ككتب السحر، وكتب الضلالات التي فيها الأمور التي تؤثر في العقيدة وتُضِل الناس، فلا تجوز الوصية؛ لأن هذا شيء مُوصَى به محرم.
كذلك لو وصَّى بآلات اللهو التي لم يأذن بها الشرع فإنه يتضمن معارضة الشرع؛ ولو قالت الشريعة: تجوز الوصية بذلك، لتناقضت، فكيف تقول: إنها آلات محرمة، ثم تجيز الوصية بها؟ فلابد من أن يكون المحل الذي ترد عليه الوصية مأذوناً به شرعاً، ولأجل التفريق بين ما يحل وما يحرم وما يُباح؛ فإنه لا بد من بيان المسائل والأحكام التي سيعرِّج المصنف رحمه الله في بيانها.
يقول رحمه الله: (باب الموصى به)، أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالشيء الذي يجوز أن يُوصَى به، والشيء لا يجوز أن يُوصَى به.