وهناك أمور تُستحب في الموصي، وينبغي لمن يُوصِي أن ينظر إلى الأكمل والأفضل؛ ومن هذه الشروط المستحبة: أولاً: ألا يخرج عن القرابة، فإذا أراد أن يوصي لأيتامه فيبدأ بأقرب الناس إليه، ممن يُحسن النظر؛ لأن القريب في الغالب فيه شفقة القرابة، ويخاف من الله جل وعلا أكثر؛ لأن القرابة تدعو إلى الشفقة وإلى الرحمة، فإذا كان هناك من أقربائه من يمكن أن يقوم بالنظر في عياله وأولاده وأيتامه من بعده، فلا يعدل إلى الغريب، ولا ينتقل إلى الأجنبي، ولأنه ربما احتاج الوصي أن يخاطب أمهم، ولربما احتاج أن يختلط باليتامى، فعندما يكون من الأقربين يكون ذلك أخف على أولاده وأيتامه وأجبر لقلوبهم، بخلاف ما إذا كان أجنبياً فإنه يكون أدعى إلى التُّهَم، ويكون في ذلك من التضييق والعنت ما الله به عليم، فيبدأ بالأقرباء قبل الغرباء.
ثانياً: من أهم ما ينبغي أن ينتبه له بعد هذه الشروط الدينية هو مراعاة الأمور الدنيوية المهمة التي من أهمها: حُسن النظر في الأمور؛ فإن الله عز وجل فضل الناس بالعقول، وفضّلهم بحسن النظر، فهذا العقل هو الذي ارتقى الإنسان به من مستوى البهيمية إلى مستوى الآدمية والتكريم من الله جل وعلا، وهو نور من الله سبحانه وتعالى تنكشف به حقائق الأمور، فيميِّز الإنسان بهذا العقل بين الصالح وبين الضار، ولذلك تجد من فقد عقله بسكر أو جنون -والعياذ بالله- يكون حاله في بعض الأحيان أردأ من حال الطفل، ولربما ذهب ورمى بنفسه في النار، مع أن البهيمة إذا رأت النار فرت منها، ولكنه ربما جاء في حال سكره وحال ذهاب عقله -والعياذ بالله- فيرمي بنفسه، ولربما قتل نفسه والعياذ بالله، فالعقل من أتم النعم التي أنعم الله عز وجل بها على العبد بعد نعمة الدين، ولذلك وصف الله الدين مع العقل بأنه نور على نور.
فإذا جاء الإنسان يوصِي بقرابته وأوليائه إلى شخص فعليه أن ينتبه لهذه الجوانب المهمة من اكتمال العقل، فقد يكون عاقلاً ولكنه غير مكتمل العقل، فينظُر إلى الشخص الذي عُرف بسداد الرأي، فمثلاً: إذا كان الذي يريد أن يوصي غنياً ثرياً، فينبغي أن يتنبه إلى جانب حفظ المال وتنميته، فإذا وُجد الشخص المعروف بحسن النظر في تنمية الأموال واستثمارها عهد إليه بالقيام على أمواله؛ لأن مال اليتيم يحتاج إلى ذلك، وهذا أكمل وأفضل، فيُحفظ المال وينمو، ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (اتّجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة).
فندب إلى أن يكون الولي ممن يُحسن النظر في استثمار الأموال وحسن رعايتها، وهذه المرتبة مرتبة الأحسن والأكمل، أما إذا لم يجد الموصي من يُحسن تنمية أموال أيتامه؛ فليبحث عن الشخص الذي عُرف بالحيطة والحذر والخوف في حفظ الأشياء، وله أن يختبره حتى يعلم أمانته وحفظه، حتى إذا لقِي الله جل جلاله ووقف بين يدي الله وأبناؤه خصومه فيمن ولاّهم عليه يقول: رضيت لهم ما أرضاه لنفسي.
فعليه أن يَنْظُر وكأنه يتيم من هؤلاء اليتامى، فينظر الذي يُرضَى في حفظه ورعايته لهذه الأموال، سواء كان من القرابة أو من غيرهم.
فالإنسان عندما لا يجد من يُحسن الاستثمار، أو وجد رجلاً يستثمر الأموال ولكنه يخاطر في استثماراته، ووجد شخصاً غيره لا يستثمر، لكنه إذا أمسك شيئاً حفظه حتى يؤديه على أتم وجوه؛ فحينئذٍ تجتنب جانب المخاطرة، وتعهد بأبنائك إلى من عُرف بالحفظ، فالحفظ حسن والاستثمار أحسن، لكن حينما كان الاستثمار فيه مخاطرة وصاحبه لا يُعرف بالحذر، فتعدل إلى من يعرف بالحفظ؛ لأن المسلم لا يخاطر لنفسه، فكذلك لأيتامه الذين أُمر بالنظر في مصالحهم.
كذلك أيضاً عليه أن يبحث في الأمور الدنيوية من ناحية أخلاق الرجل في دينه وحسن معاملته؛ لأن أيتامه من بعده ربما احتاجوا أن يدخلوا على هذا الرجل المرة بعد المرة، وقد يكون الرجل فظاً غليظاً، فقد تجده يحسن حفظ الأموال أو استثمارها، لكن أخلاقه شرسة ومعاملته سيئة؛ فيعيش اليتيم تحت القهر، فلا يستطيع أن يبث حاجته وأن يبث حزنه، ولا يستطيع أن يسأل حاجته، أو أن يصل إلى ماله ومالُه بين يديه، فلا ينبغي أن يولي عليهم من عُرف بالشدة والأذية والتضييق، وإنما يُراعي فيه الأخلاق الطيبة، والتواضع والإلف والحلم والرحمة، ويوصيه بتقوى الله عز وجل، وحسن النظر في أيتامه وأولاده من بعده، وقد كان السلف الصالح رحمهم الله يحتاطون في هذا الأمر كثيراً.