الحالة الثانية: أن يكون الازدحام عند الاختلاف، مثل أن يُوصِي بحق واجب كالحج، ويوصي بمستحب، فيقول مثلاً: أخرجوا من الثلث ما يُحج به عني حجة فريضة، وأخرجوا من الثلث عشرة آلاف ريال لفلان صدقة مني عليه، فعندما جئنا ونظرنا وإذا بثلثه لا يمكن أن يُحج عنه وتُخرج العشر آلاف ريال، أي: لا يستوعب الأمرين، فوجدنا أن الحج عنه فريضة واجبة لازمة، والعشرة آلاف صدقة مستحبة، فازدحمت الوصيتان إحداهما واجبة والثانية مستحبة.
وهذه كلها تُعرف عند العلماء بمسائل الازدحام في الوصية، فإذا ازدحمت الوصايا وكانت كلها واجبة؛ فمذهب بعض العلماء رحمهم الله أنه يُنظر إلى صفة الوجوب من حيث اللزوم، مثل الحج في لزومه وفرضيته آكد من غيره.
وبعض العلماء يقول: لا يُنظر إلى مثل هذا، وإنما تُقدم الكفارات لأنها دين، والحج لا يجب مع الدين، بمعنى: أن الحج يسقط مع الدين، فإذا كان الشخص مديوناً فالحج يسقط، فحينئذٍ حقوق الكفارات الواجبة عليه مقدمة على الحج؛ لأنه لو كان حياً وأراد أن يسأل لقلنا له: أدِّ الكفارات الواجبة عليك ثم حج؛ لأن الحج لا يجب على من عليه دين، فقُدِّمت الكفارات والنذور والأيمان من هذا الوجه، وهذا القول عند النظر والتأمل أقوى.
أما بالنسبة لازدحام الواجب مع المستحب والمندوب فلا إشكال، فلو أنه وصى بالحج وبالصدقة، حججنا عنه ثم نتصدق بما بقي.
فمثلاً: لو كان الحج عنه بألفي ريال، ووصّى بعشرة آلاف ريال لرجل صدقة، فلنفرض أن الثلث ثمانية آلاف ريال فنخرج منه ألفين للحج عنه، وندفع الستة آلاف الباقية للشخص الذي وصّى له، ويكون له ما فضل عن الواجب، فتكون المستحبات استحقاقُها في الوصية عند الازدحام مع الواجبات فيما فضل وزاد.
هذا بالنسبة لازدحامها، أما في حال الاجتماع بالاستواء مثل: المستحبات، فلو كانت وصاياه كلها مستحبة، كأن يقول: أعطوا محمداً ثلاثة آلاف ريال، وأعطوا زيداً ثلاثة آلاف ريال، وأعطوا عمراً ثلاثة آلاف ريال، فهذه تسعة آلاف ريال، وثلث التركة ثلاثة آلاف ريال، فكيف تقسم ثلاثة آلاف على تسعة؟ في هذه الحالة ننظر إلى سهم كل واحد منهم من أصل مسألة في مجموع الوصايا، فإذا وصى لكل واحد من الثلاثة بثلاثة آلاف ريال، فمعناه: أن نصيبهم مستوٍ، فتنظر إلى عدد رءوسهم وهم ثلاثة، فتُعطي كل واحدٍ منهم ثلث الثلث، وهذا هو معنى: بالقسط وبالحساب.
وعلى هذا: ننظر إلى الرءوس واستحقاقها بنسبة المال الذي وصّى به، فلو اختلفت فقال: أعطوا محمداً ألفين وزيداً ألفاً وعمراً ألفاً، فحينئذٍ تكون متفاوتة؛ لكن بين الألفين والألف تناسب، فتكون مقسومة على أربعة، فيصبح لمحمد نصف الثلث، ولزيد ربع الثلث، ولعمرٍ الربع الآخر، فلو كان الثلث يعادل أربعة آلاف ريال، فنقول في هذه الحالة: يمضي نصف الثلث لمحمد -وهي الألفان- ثم لزيدٍ ألف ولعمرٍ ألف؛ لأنها تعادل ربع الثلث.
ومسألة أن تجزِّئ بالأقساط هي مسألة مفرعة على مسألة العَوْل في الفرائض، ومسألة العَوْل في الفرائض حُكِي فيها إجماع الصحابة رضوان الله عليهم، والأصل في ذلك قضية عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع المرأة لما تُوفِّيت وقد تركت أختين وزوجاً، فالزوج له النصف، والأختان لهما الثلثان، فأصبح لا يمكنك أن تُعطي نصف التركة للزوج؛ لأنك إذا أعطيته النصف بقي النصف، ولو أعطيت الأختين الثلثين بقي الثلث، والزوج يريد النصف، فحينئذٍ ماذا يُفعل؟ لما وقعت هذه الحادثة في زمان عمر بن الخطاب جمع الصحابة رضوان الله عليهم وشاورهم في هذا الأمر، وكان عمر رضي الله عنه إذا نزلت به النازلة يبدأ بأفاضل الصحابة والسابقين للإسلام، ويُقدِّم المهاجرين، ثم الأنصار، ثم يشاور عموم الناس بعد ذلك، ولا يشاور قبل أهل العلم أحداً أبداً، فيبدأ أولاً بأهل العلم فيُشاورهم، فإن وجد عندهم حلاً أمضاه؛ لأنهم هم أمناء الأمة، وأعلم بدين الله وشرعه، وهم أتقى لله وأقرب إلى الإخلاص، والبصيرة فيهم نافذة بتوفيق الله سبحانه وتعالى لهم.
فشاور رضي الله عنه فقهاء الصحابة وأجلاءهم، وكان فيهم الزبير رضي الله عنه وأرضاه، فقال: (يا أمير المؤمنين! ما أرى هذه المسألة إلا كرجل توفي وعليه دين عشرة وترك أقل من ذلك، فننظر نصيب كل واحد من أصلها).
ومراده بذلك: أننا ننظر إلى ما تركه الميت ويُجزأ، ويكون النقص داخلاً على كل شخص بقدر سهمه، فإذا كان الثلثان مع النصف فتعول المسألة إلى سبعة، فبدلاً من أن نقسمها على ستة نقسمها على سبعة، وحينئذٍ يكون للأختين الثلثان أربعة، ويكون للزوج النصف ثلاثة، ويقسم النصيب فينقص صاحب النصف بقدر مناسب لصاحب الثلثين، ويدخل النقص على الجميع بقدر السهم، كما سيأتي إن شاء الله بيانه وتفصيله في كتاب الفرائض.
وهذه المسألة عندما وقعت بين الصحابة صارت أصلاً عند العلماء في النماء والفضل إذا ترك التركات والمال، وصارت أصلاً -أيضاً- في العد والنقص، ففي هذه الحالة لو ازدحمت الوصايا وعيّن وقال: لفلان ألفان، والثاني له ألفان، والثالث له ألفان، وترك ثلاثة آلاف، فحينئذٍ نُدخل النقص على كل واحدٍ بقدر حصته من أصل المسألة، وهذا شبه إجماع بين الصحابة رضوان الله عليهم في هذه المسألة، وقد فرّع العلماء رحمهم الله عليها مسائل الازدحام.