قال رحمه الله: [وتكره وصية فقير وارثه محتاج] تقدَّم معنا أن الوصية تعتريها الأحكام التكليفية، فقد تكون محرمة، أو مكروهة، أو واجبة، أو مندوبة، وبيّنا هذه الصور كلها وأدلة كل صورة، وهنا يقول المصنف: (تكره) أي: تكره الوصية من الشخص الفقير، والفقر والغنى أمرٌ عرفي، فيُرجع في ذلك إلى العرف، فلو كانت عنده خمسة آلاف ريال، والعرف يقول: من عنده خمسة آلاف ريال فهو في حكم الفقير، فهو فقير، فمثله يُكره له أن يوصي؛ بشرط أن يكون له وارث محتاج.
إذاً: لابد من أمرين: أولاً: أن يكون المال الذي يتركه قليلاً، بحيث يُوصَف معه بالفقر والحاجة.
ثانياً: أن يكون وارثه محتاجاً إلى هذا المال.
فإذا تحقق الشرطان فالوصية مكروهة، وبعض العلماء يقول: إنها خلاف الأولى، وبعضهم يقول: مكروهة، وقد اختلف علماء الأصول: هل خلاف الأولى يعتبر مكروهاً أم لا؟ أما كونها خلاف الأولى، فلا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم بين هذا بالدليل الصحيح، فإن ميمونة رضي الله عنها أخذت جارية من جواريها فأعتقتها، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت له: (يا رسول الله! هل شعرت أني أعتقت فلانة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لو أنك أعطيتِها لأخوالك لكان أعظم لأجرك)، مع أن الإنسان إذا أعتق لوجه الله عُتِق كل عضوٍ منه بما أَعتق، حتى ينجو من النار بهذا العتق، إذا وقع على الوجه المقبول عند الله سبحانه وتعالى، خالصاً لوجهه الكريم، ومع هذا يقول لها: لو أبقيتِها على الرق ووهبتِها لأخوالك فوصلتِ بها الرحم؛ لكان أعظم لأجرك.
فجعل العِتق خلاف الأولى، ووجه ذلك أنها تصدقت على غريب، مع وجود حاجة القريب.
وبناءً عليه: أخذ العلماء أن البداءة بالغريب مع وجود حاجة القريب خلاف الأولى، وهل خلاف الأولى مكروه؟ حينئذٍ ترد المسألة الأصولية التي ذكرناها، لكن بعض العلماء يقول: إن الورثة قد بين النبي صلى الله عليه وسلم تأكد الأمر في حقهم بقوله: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)، فهو فقير، والمال ليس بذاك، ومعناه: أنه إذا لم يترك لأولاده هذا المال، فالغالب أن أولاده سيحتاجون، وعلى ذلك قالوا: إنه يكره، ولا شك أن القول بالكراهة له وجهه وله قوته؛ لأنه لا شك يُضيِّق على الورثة، ويجحف بهم، وعلى ذلك تكون صدقته على الورثة خيراً له من أن يعطي المال للغريب، ولو كان ذلك الغريب محتاجاً؛ بل إن تركه للمال نوع من الإحسان ونوعٌ من الصلة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الصلة يبدأ بها الإنسان بأدنى الناس منه، ولذلك قال: (ثم أدناك أدناك)، وعلى هذا فيبدأ بورثته قبل أن يبدأ بالناس.