Q ما هي السنة في التعزية والجلوس لها؟
صلى الله عليه وسلم أولاً: تعزية المسلم لأخيه المسلم جبرٌ لخاطره، ومواساة له في مصابه، يثبت الله بها قلبه، ويسدد بها لسانه، ويشرح بها صدره، فكم من كلمات طيبات مباركات من المؤمنين والمؤمنات، في الحوادث والملمات، دفعت عن أهلها هموماً وغموماً، لا يعلمها إلا الله عز وجل، فالمسلم يحتاج إلى تعزية أخيه ومواساته.
وخاصة في حال فقد العزيز من والد أو والدة أو أخ أو أخت أو ابن أو بنت، فيواسي المسلم أخاه المسلم، فيذكره بما عليه السنة في المصيبة من الاسترجاع، وسؤال الله عز وجل حسن الخلف، وحسن العِوض.
ويذكِّره بأن الله سبحانه وتعالى فيه عوض عن كل فائت، فلو زالت الدنيا عن العبد، فإن الله تعالى إذا تأذن له بحسن الخلف سيعوضه خيراً منها عاجلاً أو آجلاً، وكم من مصائب وكوارث ومتاعب عادت على أهلها بكل خير في دينهم ودنياهم وآخرتهم، فأول ما ينبغي عليه أن يثبت قلب أخيه.
ثانياً: إذا جاء في التعزية يراقب حال أخيه فإن رآه على سنة ثبّته عليها، وإن رأى منه خطأً أو تقصيراً أو بدعة أو ضلالة ذكره بالله، ونصحه، فأمره بالمعروف، ونهاه عن المنكر، وحذره من معصية الله عز وجل في عزائه من إحداث القُرّاء وإحداث البدع في البيوت، والمبالغة في وضع الكراسي ووضع الأنوار على البيوت، مما قد يكون في بعض الأحيان من أموال اليتامى والقُصّار، ففيه اعتداء على الأموال التي أمر الله بحفظها لأهلها، أو الإتيان بالقُرّاء أو الذبائح، أو إطعام أهل العزاء، ونحو ذلك من الأمور المنكرة التي ما أنزل الله بها من سلطان، التي أحدثها الناس بمحض أهوائهم، وجارى بعضهم بعضاً محاباةً.
فينبغي تذكير الناس في مثل هذا، وينبغي على طلاب العلم أن ينصحوا، وعلى أئمة المساجد أن يذكروا، فكلمة الحق منهم غالباً مسموعة، وألا يجامل الناس في مثل هذا، فإذا كان المبتدع لم يجامل في بدعته، ولم يخف منك، فينبغي عليك وأنت على الحق وعلى السنة ألا تجامل، وألا تخاف منه؛ بل تبدي له الحق وتقول له: يا أخي! هذا لا يجوز، وهذا فيه اعتداء على السنة.
ولو أن العزاء يذكِّر فيه الناس بعضهم بعضاً بالسنة، ويحذر بعضهم بعضاً من البدعة؛ لأحيِيَت سنن المرسلين ولأميتت بدع المضلين، ولكن السكوت على مثل هذه المنكرات، ومجاراة الناس فيها، كل ذلك جرّأ أهل الباطل على باطلهم، فلا ينبغي لطلاب العلم، ولا للأخيار ولا للصالحين أن يسكتوا عن مثل هذا.
وكذلك يُسن في التعزية أن يتفقد الإنسان ما يحتاج إليه الميت بعد موته؛ فإذا كانت هناك أمورٌ يوصي ورثته بها مما فيه خير في أمور دينهم ودنياهم وآخرتهم فإنه يأمرهم بها.
وليس هناك لفظ معين في العزاء، فكل شيء قاله مما يَجبُر به كسر أخيه المسلم فلا بأس به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُلزم الناس بكلمة معينة.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (إن لله ما أعطى وله ما أخذ، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب)، فهذا وقع قبل موت الغلام، كما هو معلوم ومعروف من سياق القصة، قاله لأنها أرسلت إليه أن اشهد؛ فقال صلى الله عليه وسلم: (فمرها فلتصبر ولتحتسب).
فهذا ليس بإلزام بلفظ العزاء، لكن لو قاله الإنسان لأخيه فهو على سنة وخير؛ لأنه لفظ يتضمن المعاني المقصودة: (إن لله ما أعطى وله ما أخذ، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب)، وهذا شيء طيب، وكلام مناسب، يناسب الصدمة ويناسب الحال؛ لكن لا نستطيع أن نفرضه على الناس، ونقول: لا يقول أحد عند العزاء إلا هذا، بحيث لو جاء أحد يقول لأخيه: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، فنقول له: هذا بدعة.
ولو كان هناك لفظ مخصوص لما سكت الكتاب والسنة عنه؛ لكن لما تُرك الناس لما يكون فيه جبر للخاطر، ومواساة له، فكل كلام تقوله تجبُر به خاطر أخيك، وتجبر به كسره؛ فإنه مما فيه الخير له ومن البر والصلة، وأنت مأجور عليه.
وإذا اخترت الوارد -كما ذكرنا- فهذا أفضل، لكنه ليس بلازم وفرض على الإنسان أن يقوله، وأياً ما كان فينبغي الحرص على السنة، وأمر الناس بها، ودلالتهم عليها في التعزية وغيرها، والأمور التي يفعلها الناس مما يكون منها في مقام العبادات يُتوقف فيه على الوارد، وما يكون منها خارجاً عن العبادات فإنهم لا يُلزمون بما ليس بلازم.
فإذا أراد أن يعزِّي القرابة فيبدأ بكبيرهم وذي الحق منهم، ويبدأ بمن هو أعظم مصيبة؛ كأولاد الميت ونحو ذلك، يبدأ بهم لأن الحق لهم آكد، وقد جاء لحقٍ فيبدأ به، قال العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيح من حديث عتبان حينما قال له: (إني أريدك أن تأتي إلى بيتي فتصلي في مكان أتخذه مصلىً) فلما دخل البيت -بيت عتبان -، كان أول ما كلمه قال: (أين تحب أن أصلي لك؟).
فقالوا: إن في هذا الحديث دليلاً على أن من جاء لأمرٍ فيبدأ به قبل كل شيء، وكان عتبان قد ذبح وأعدّ طعاماً، وصنع طعاماً، فقبل أن يطعم النبي صلى الله عليه وسلم طعامه بدأ بالشيء الذي جاء من أجله.
فلمّا كان المقصود هو التعزية وجاء من أجل التعزية، فإنه يبدأ بأحق الناس بالتعزية، وهم أقرباؤه كالوالدين، والمرأة تبدأ بالوالدة، وأولاد الميت، فيبدأ بذي الحق، ثم بعد ذلك الأقرب فالأقرب.
وما يحدث من الناس في بعض الأحيان أنك ترى الكبير يرتب بعضهم بعضاً، فيقف الكبير ثم من بعده الصغير، فإن هذا قد اغتفره العلماء والمشايخ، وقد أدركنا أهل العلم لا يُنكرون في مثل هذا؛ لأنك لا تستطيع أن تأتي بين أمة على القبر في بعض الأحيان يَصِلُون إلى ألف شخص فتظل تبحث عن قرابة الميت.
فلابد أن تعرف قرابة الميت، فحينما يصطفون ويُعرف كبيرهم، ويُعرف ذو الحق منهم، فهذا أمر وسَّع فيه العلماء، وما أدركنا أحداً من مشايخنا رحمة الله عليهم يُشدِّد في هذا؛ لأنهم لا يقصدون به العبادة، ولا يُقصد به شيء معيَّن للتعبديات.
لكن من البدعة والحدَث وضع الأيدي على الأكتف، فإن هذا شيء ليس له أصل، بل تسلم عليه وتصافحه، فالمصافحة هي السنة، وتأمره بالصبر واحتساب الأجر، وكذلك تعزِّي أكثرهم ألماً، ومن ترى فيه الحزن أكثر تشد عليه وتذكره أكثر، فهذا أمر ينبغي مراعاته أثناء العزاء.
أما كونهم يَجتمعون في بيت الميت فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يعدون الجلوس في بيت الميت من النياحة، وهذا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كان الناس قليلين، ويمكن أن تعزي الرجل وتراه في المسجد.
ولكن في زماننا توسع العلماء رحمهم الله من المتأخرين في مسألة حضورهم في بيت واحد؛ لأن ذلك أرفق على الناس، ومن الصعوبة بمكان -خاصة في الأزمنة المتأخرة- أن تنتقل بين عشرة أو عشرين بيتاً -وهم قرابة الميت- في مدينة واحدة، وهذا لا شك أن فيه صعوبة عليهم، فإذا اجتمعوا في بيت أكبرهم، أو في بيت القريب الأقرب، وجاء الناس وعزّوهم جميعهم في مكان واحد، فهذا لا بأس به، وقد خفّف فيه بعض العلماء.
ولكن الجلوس لغير الحاجة، مثلما يقع من بعض الناس من الإتيان إلى أهل الميت وإطالة الجلوس عندهم، كل هذا من البدع والمحدثات، ولا شك أنه يترتب عليه ضرر لقرابة الميت، والمنبغي هو التخفيف عليهم والتوسعة عليهم.
وكذلك إحضار الطعام، والتكلف في الولائم، كل هذه من الأمور التي أحدثها الناس، إلا ما وردت به السنة عند الصدمة الأولى من صُنع الطعام في اليوم الأول، فإن وافق الموت ظهراً صُنْع لهم طعام الغداء، وفي الحقيقة الذي يظهر هو جواز صنع طعام الغداء، أما طعام العشاء ففي النفس منه شيء، ويكون ذلك مرة واحدة؛ لأنه قال: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً)؛ لأن الإنسان يطعم في يومه.
والذي يظهر أنه في حدود الحاجة كالغداء، وأما أن يُصنع الغداء ثم العشاء ثم الغداء في اليوم الثاني ثم العشاء، ويُرتِّبون على ذلك ثلاثة أيام، فإن هذا من البدع والحدث، وما أنزل الله بها من سلطان، ولذلك شدّد الناس على أنفسهم، وضيّقوا على أنفسهم في هذا، فكلفوها ما لا تطيق من الذبائح والولائم.
نسأل الله العظيم أن يرزقنا التمسك بالسنة، وأن يعيذنا من البدعة، والله تعالى أعلم.