ينبغي على المسلم إذا أراد الوصية أن يبدأ بحمد الله عز وجل والثناء عليه، سواءً كانت مكتوبة، أو ملقاة، فيبدأ أولاً بذكر اسم الله عز وجل، كما جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه فيما حكاه عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم كانوا يبدءون وصاياهم ببسم الله الرحمن الرحيم.
وهذا أصلٌ عند العلماء: أن الأمور التي فيها تذكير بالله عز وجل، وذكر لله سبحانه، تُستفتح باسمه؛ لأن اسم الله مبارك، كما قال تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} [الرحمن:78]، فاسم الله فيه البركة والخير، وما كان في قليل إلا كثره، ولا يسير إلا باركه، فليس هناك أبرك من اسم الله عز وجل.
فيبدأ وصيته ببسم الله الرحمن الرحيم، ثم يحمد الله ويثني عليه بالذي هو أهله، ثم يبدأ بأعظم الوصايا وأجلها وهي الوصية بتوحيد الله عز وجل، كما أخبر الله عن أنبيائه وصفوته من خلقه صلوات الله وسلامه عليهم، فقد وصى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب بنيهم أن لا يشركوا بالله شيئاً، وأن يُفرِدوا الله بالعبادة، وأن يقوموا بحق الله عز وجل، وأعظم تلك الحقوق توحيده سبحانه وتعالى.
فيُوصِي أولاده بتوحيد الله أولاً، وإخلاص العبادة لله عز وجل، والقيام بحقوقه الواجبة من إقامة الصلوات، وإيتاء الزكوات، وصوم رمضان، وحج البيت، وغيرها من فرائض الإسلام، فيُجمِل أو يفصِّل تفصيلاً مناسباً لا إطالة فيه.
ثم بعد الوصية بحق الله عز وجل يبدأ بالأهم فالأهم من أموره؛ فيبدأ أول ما يوصِي به بعد ذلك أن يوصي بتجهيزه وتغسيله وتكفينه والصلاة عليه على وفق السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويُحذّر ذريته من البدعة والحدث، وإحداث الأمور التي لم يأذن الله عز وجل بها في تغسيله، أو تكفينه، أو الصلاة عليه، أو تشييعه، أو دفنه، فيحذرهم من البدع في ذلك كله، ويأمرهم بما أمر الله ورسوله به، ويذكرهم سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويأمرهم بالرجوع إلى العلماء ومن يوثق بدينه وعلمه؛ لكي يقوم بذلك على وجهه المعتبر.
ثم بعد ذلك يوصي بما يتبع ذلك من العزاء وغيره من الأمور، ألا يُحدث فيها شيء من البدع، ويوصيهم بالصبر واحتسابه عند الله عز وجل، وأن في الله خلفاً من كل فائت، فالله عِوض للعبد من كل ما يفوته من الدنيا وما فيها، ومن كانت سلوته بالله عز وجل جبر كسره، وأعظم أَجره، وأخلف عليه بأحسن الخلف سبحانه وتعالى، ويوصيهم بالدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم في المصائب من الاسترجاع وسؤال الله الخلف، وهو حديث أم سلمة الثابت في الصحيحين.
ثم بعد ذلك يوصيهم بحقوق القرابة التي هي أعظم الحقوق بعد حق الله عز وجل، فيوصهم ببر الوالدين، فإن كان والداً وصاهم ببره من بعد موته؛ بالدعاء له والترحم عليه والاستغفار له، وسؤال الله عز وجل أن يُفسح له في قبره، وأن يحسن له فيما يكون من آجل أمره.
ويوصيهم ببر والدتهم إن بقيت من بعده، فيوصيهم بوالدتهم خيراً، وفاءً لزوجه وحفظاً لحقها، وكذلك أيضاً يوصيهم ببعضهم خيراً إن كانوا إخوة؛ أن يحفظوا حقوق الأخوة، وأن يجتمعوا ولا يفترقوا، وأن يتواصلوا ولا يقطع بعضهم بعضاً، وأن يتقوا الله عز وجل في بعضهم فيُحسنوا ولا يسيئوا.
كذلك أيضاً يوصيهم بأضعفهم، فيوصي الذكور بالإناث خيراً؛ لأن المرأة ضعيفة، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم حقها فقال عليه الصلاة والسلام: (إني أحرج حق الضعيفين المرأة واليتيم)، فيوصي الذكور بأخواتهم خيراً؛ أن يحسنوا إليهن، وأن يكونوا على أحسن ما يكون الأخ لأخته، خاصة أن الأنثى بعد فقد الوالد تشعُر بفراغ كبير، وعجز عظيم، فإنها تفقد حناناً عظيماً، والله عز وجل إذا أراد بها خيراً بارك لها في أخيها، فكم من أخ مبارك قام على إخوانه مقام والده! فيُوصِي الإخوان بأخواتهم خيراً، ويذكِّرهم بصلتهم وزيارتهم وتفقد أحوالهم من بعد موته، ودائماً يكون الأخ حافظاً لهذه الوصية حتى ولو لم يوصِ بها الوالد، فإن للأخت على أخيها حقاً عظيماً، وتحتاج إليه ولو كانت مزوجة؛ بل قد تكون الأخت بعد زواجها أحوج ما تكون إلى عطف أخيها وبره وصلته، أكثر مما لو كانت غير ذات زوج.
فتحتاج إلى أن تستشيره، وتحتاج إلى معونته ومواساته، وتحتاج إلى كلمة منه تثبتها في همومها وغمومها، فهذا مما يُوصَى به -حقوق الإخوان والأخوات- ويوصي الأخوات بإخوانهن خيراً كذلك.
ثم ينظُر إلى الأمور التي يحتاج إليها من بعد موته، فيوصيهم أن لا تُفرق الدنيا بينهم خاصة في أمور الإرث؛ فيوصِي الذكور بحفظ حقوق الإناث، ويوصي القوي أن يحفظ حق الضعيف، وأن يتقي الله جل جلاله في حقوق إخوانه القُصّار كالأيتام والضعفة، فلا يأكل أموالهم بناءً على أنهم صغار ويقول: إذا كبروا أعطيهم المال، فهذا من التفريط؛ لأنه لا يأمن أن تتغير أموره، ولا يأمن الفقر، فيحفظ أموالهم كاملة تامة غير منقوصة، ويحرص على حسن النظر فيها إذا كانت المتاجرة بها فيها خير ومصلحة، ويوصيهم بحفظ حق العاجز والمحتاج، مثل المتخلف في عقله، أو الذي فيه سفه في تصرفه، فيوصي بعضهم ببعض خيراً على هذا الوجه.
ويُفضّل أن يجعل أحدهم قائماً عليهم، ويكون كالخليفة من بعده في ولده، وبالأخص إذا كان أكبرهم سناً، فإن الأكبر له حق على الأصغر وهو مقدَّم عليه، ولذلك ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة القَسَامة أنه لما أراد حويصة أن يتكلم قال عليه الصلاة والسلام: (كبر كبر)، فيقدِّم الكبير إذا كان أكثر عقلاً، وأكثر نظراً، وأكثر رحمة وشفقة.
وينظر إذا كان الكبير ليس بهذه المثابة، وعلم أن أصغر أولاده، أو الأوسط، أو أحدهم ممن هو أصغر منه أكثر ديانة، وتقوى لله عز وجل، وحفظاً للحقوق، فإنه يجعل العهد إليه، ويسلّي من هو أكبر؛ فيعتذر له بالتي هي أحسن، ويقول له قبل موته: إني كنت سأوصي إليك، ولكن يعتذر إذا استطاع حتى ولو بالتورية، ويقول: أراك مشغولاً، ولا أريد أن أحملك، أو نحو ذلك، مما يكون فيه جبر لخاطره، وإطفاء لنار الفتنة أن يوغر صدره على أخيه.
فيوصي بالأرشد فالأرشد من أولاده، والأتقى لله عز وجل؛ لأن التقي يخاف الله عز وجل، ويرجع إلى العلماء حتى يسعى في فكاك نفسه من النار، فيحرص على أن يولي أمرهم من يخاف الله عز وجل ويتقيه فيه.
وإذا كانت هناك أمور يحتاجها، مثل أن يتصدق بصدقات أو هبات فيُسمِّي هذه الصدقات، ويقول: أخرجوا من مالي كذا وكذا في سبيل البر، أو في سبيل الخيرات، أو أخرجوا من مالي كذا وكذا إفطاراً للصائمين، أو أضحية، أو نحو ذلك من الوصايا التي يجعلها من بعد موته في حدود الثلث فما دونه كما سيأتي.
كذلك أيضاً إذا أراد الوصية ينتبه لحقوق الناس، فيوصي أولاده بالأقرباء من الأعمام والعمات والأخوال والخالات، فيوصيهم بالقرابة خيراً، ويوصيهم بأهل وده ومحبته من بعد موته، أن يُوصلوا ولا يُقطعوا، وأن يُحسن إليهم ويبرّوا ويكرموا؛ إنفاذاً لوصية الرسول صلى الله عليه وسلم ببر الوالدين في ذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه).
فإذا كان له إخوان وأصدقاء فيهم حاجة، وهو غني ثري وترك لورثته مالا، ًوكان يتفقد إخوانه وأصدقاءه بالمال، فيوصي أولاده أن يتفقدوا هؤلاء الإخوان والخلان؛ لأن هذا من حفظ العهد، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (حفظ العهد من الإيمان)، فإذا كانت بينك وبين أخيك محبة ومودة ولو مجلساً واحداً جلسته معه على ذكر الله وطاعة الله فأحببته في الله، فإنه يربطه بك حق عظيم.
فهذا من حفظ العهد، أن توصي بإخوانك وأصدقائك وخلانك أن يُزاروا، فربما زارهم ابن من أبنائك ففرّج الله به كرباتهم، فكان سبباً في الترحم عليك والدعاء لك، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه)؛ لأنه إذا جاء الابن بعد وفاة أبيه لزيارة صديقه تذكّر الصديق ما كان عليه صديقه من المحبة، ولربما بكى فخشع قلبه فترحم عليه، ولربما سامحه في حقوقه التي هي عليه، فهذا كله فيه خير كثير للميت.
ولم تأت وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم به من فراغ، فيحرص على وصيتهم بأصدقائه وإخوانه، ووصيتهم بالجيران، وغير ذلك مما وصى الله به من الأعمال الصالحة.
فإذا كانت الوصية مستجمعة للخير أعظم الله الأجر للموصي، وكتب ثوابه، وختم له بخاتمة الحسنى؛ لأنه عمل صالح من بعد موته يأجره الله عليه، فكم من أبناء وبنات صلُحت أحوالهم بالوصايا! فالوصايا لها وقعٌ بليغ في القلوب والنفوس.
ومما وقع أن رجلاً كان له أولاد، وكانوا على أشر ما أنت راءٍ من الفرقة والعداوة والتقاطع والتهاجر، فكتب وصيته، فأوصاهم بتقوى الله عز وجل، وذكّرهم بحقوق الأخوة من بعد موته، فلما مرض مرض الموت اجتمعوا عنده، وأمرهم أن يقرءوا وصيته من بعده، فلما توفي تأثروا جميعاً، وانكسرت قلوبهم، فلما فتحوا وصيته وقرءوها بكوا جميعاً، وأقبل بعضهم على بعض، وسامح بعضهم بعضاً، وكانوا على خير ما يكون الأخ مع أخيه، فالله يكتب له ثواب إصلاح ولده من بعده، فالوصايا لها أثر عظيم في القلوب.
ويُستحب أن تُقرأ الوصية قبل تجهيزه وتكفينه؛ لأنه ربما كانت فيها أمور كأن يوصِي لشخص معين أن يغسله، كأن يكون عالماً، أو طالب علم، فيُحسن تغسيله على السنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وربما وصّى بشيء يُخرج عنه، أو حق يُؤدى عنه، فهذا كله فيه احتياط، وهو كونها تقرأ قبل تجهيزه وقبل الصلاة عليه؛ لأنهم إذا فعلوا ما فيها آجره الله وأعظم ثوابه.
والوصية إذا جَمعت هذا الخير الكثير؛ لا شك أنها تحقق الهدف الذي من أجله شُرعت، فالله عز وجل فتح أبواب رحمته لعباده، ولم يجعل الإحسان للعبد في حال حياته فقط؛ بل جعل له أبواب الخير بعد موته من صدقات فيُوصِي بها مثل الأوقاف، فإذا رأى من المصلحة أن يكون هناك وقف أوقف، ووصَّى من يراه صالحاً بالنظارة وعهد به إليه، كما فعل الخلفاء الراشدون كـ عمر رضي الله عنه وغيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإذا استجمعت الوصية هذه المقاصد ا