قال رحمه الله: [وحبسه عليها].
أي: أن يطلب من القاضي أن يحبسه، وهذا كما قيل: إذا لم يكن إلا الأسنة مركباً فما حيلة المضطر إلا ركوبها فإذا كان هناك أب ظالم مانع لنفقة ولده، وأصبح الولد يخشى على نفسه أن يقع في الحرام أو الآثام، فقال: يا أبتي -بالمعروف- أعطني حقي، فلم يمكنه من حقه، ثم قال له: يا أبتي! أعطني حقي، فسأله وحاول معه فلم يعطه حقه، فحينئذٍ له أن يشارعه إلى القضاء، وأن يطالب القاضي بحبسه حتى ينفق عليه بالمعروف.
ومن حق الزوجة أيضاً أن تشارع زوجها وتطلب من القاضي حبسه حتى ينفق عليها، وهذا كله من الحقوق الواجبة، فإن الحقوق الواجبة من النفقات تحكم الشريعة فيها، وإذا حكم القاضي بأن النفقة وجبت لفلان على فلان، فالواجب على من وجبت عليه النفقة وهو قادر على بذلها أن يبذلها، فإذا امتنع وطلبه القاضي فقال له: ادفع، وقال: ما أنا بدافع فمن حق القاضي أن يسجنه حتى يدفع الحق الواجب عليه، ويبذل لأولاده حقوقهم ويعطيهم ما فرض الله عليه إعطاءهم.
فإذا طالب الولد القاضي بذلك كان من حقه؛ لأنه قد يصل إلى مقام الضرورة إذا لم يعط النفقة، وهكذا الزوجة من حقها أن تطالب ولو بسجن الزوج حتى يبرئ ذمته من الحق الواجب عليه.
وتشدد الشريعة في النفقات يدل على عظمة وكمال هذه الشريعة، فالمشاكل التي تعج بها المجتمعات من السرقات والاعتداء على أموال الناس، كثير منها يقع بسبب إضاعة الحقوق كما ذكرنا.
فإذا كان الذي يماطل منع ذا الحق حقه، فإن هذا قد يدفع الممنوع من حقه أن يلتمس وجوهاً محرمة، وسبلاً مشبوهة، فيطلب الحرام، وقد يتعامل بالمعاملات المحرمة، فالشريعة تقفل هذه الأبواب، وقد تأتي إلى شخص يقع في حرام فتقول له: لم تفعل هذا؟! فيقول: أنا مضطر ليس عندي من حيلة، وقد تقع المرأة -والعياذ بالله- في الزنا، فيقال لها: لماذا؟ فتقول: لئلا يضيع أولادي.
ولذلك شدد الشرع في هذا، وزجر كل من يمتنع من النفقات حتى ولو بالحبس، حتى ولو كان والداً فيسجن بحق ولده، ولا شك أن هذا من أكمل ما يكون في زجر الناس وإيقاف كل إنسان عند حدوده، وإلزاماً لما فرض الله عليه مما يعود بالخير على الأفراد والمجتمعات.
والوالد نفسه يأمن من الشر والبلاء من هذا، ولهذا فإن المجتمعات الغربية والمجتمعات الكافرة كثيراً ما يقع الاعتداء من الأولاد على الوالدين بسبب الظلم في الحقوق، سواء في حقوق النفقة وغيرها.
وإنما نبهنا على هذا الأمر لأنه قد يستغرب الإنسان كيف يحبس الولد والده بسبب النفقة؟! وينبغي لكل طالب علم بل للناس عامة أن يعلموا علم اليقين أن أي حكم في شرع الله عز وجل وفي الفقه الإسلامي مستنبط من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فيه قوة وفيه شدة، فلن تستطيع أن تدرك الحكم الموجودة فيه إلا إذا خالفت هذا الحكم ونظرت إلى الأسباب المترتبة على عكسه.
ولذلك قد تجد الابن يعق والده، ولربما يقتله -والعياذ بالله- بسبب الدينار والدرهم، وقد وقع في بعض المسلمين -نسأل الله العافية والسلامة- أن والداً كان ظالماً بخيلاً، فكان يهضم أولاده وزوجته، وقد فتح الله عليه من أموال الدنيا الشيء الكثير، فلما بلغ هذا البخيل الظالم لولده سكرات الموت، قام ولده وجثا على صدر أبيه، وانتزع دفتر الشيكات من صدره، فقال له: اذهب -نسأل الله السلامة والعافية- إلى كذا وكذا من غضب الله عز وجل، فلم يرحم والده في آخر عمره، ولم يرحم حالته تلك، وهي حالة تنكسر فيها القلوب القاسية وتلين فيها مما ترى، وليس شيء بعد الدين أعز من الوالدين، وبعدما أمر بتقديمه على الوالدين ليس هناك أحد أعز عليه من والديه.
وصدق قول الرسول صلى الله عليه وسلم -وهو الصادق المصدوق- حينما قال: (ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم ما يفتح الله من زهرة الدنيا، فتنافسوها كما تنافسها من قبلكم، فتهلككم كما أهلكتهم)، فهلاك الناس بالدنيا والمال، ولذلك لا ينبغي التساهل في هذا، فالشريعة تحكم بما يزجر؛ لأنه ربما يأتيك شخص بشبهة ويقول: كيف تأمر الشريعة ببر الوالدين، وتجيز للولد أن يحبس والده في النفقة؟! فقل: نعم، هذا أمر له تبعات وله آثار وله تداعيات مترتبة عليه، والشريعة دائماً تنظر إلى العواقب، ولذلك قال الله عز وجل: {أفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء:82]، ودبر الشيء: آخره، فإذا كنت تنظر إلى آخر الشيء فمعنى ذلك أنك قد أحطت بالشيء، وإذا بلغ النظر أنك استوعبت الشيء إلى أن وصلت إلى آخره فقد تم نظرك في هذا الشيء.
فكل حكم مستنبط من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم التي يقول فيها: (لقد أوتيت القرآن ومثله معه) تنظر إلى دبره وعواقبه وآثاره فيما لو عكس هذا الحكم من حيث السلب، وفيما لو حكمنا بهذا الحكم من جهة الإيجاب، فلا ترى حكماً أتم من حكم الله عز وجل، ولا أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون، ولقوم يعقلون، ولقوم يفقهون، ولقوم يدركون، ففيه الخير وكل الخير، فنسأل الله العظيم أن يرزقنا حسن التدبر في شرعه وحكمه.